البلشفية طريق الثورة: الفصل السادس: سنة الثورة – أيام يونيو

كان لينين قد رفع، منذ عام 1905، شعار بناء الميليشيات العمالية كمطلب رئيسي للثورة، وبالتالي فإنه لم يكن من قبيل المصادفة أن كان مطلب تسليح العمال أحد المطالب الأولى التي طرحها في برقيته التي بعثها إلى البلاشفة من سويسرا. لكن في الواقع كان العمال الروس قد شرعوا بالفعل بتنفيذ هذه المهمة دون انتظار أن يقولها لهم أحد.

[Source]

خلال المصادمات المسلحة التي اندلعت في فبراير، قام العمال، بدءا من النشطاء، بالاستيلاء على كمية كبيرة من الأسلحة: تم الاستيلاء على 40.000 بندقية و30.000 مسدس من المخازن، كما سلمتهم اللجنة العسكرية للحكومة المؤقتة، على مضض، 24.000 بندقية و400.000 خرطوشة ما بين بين 02 و03 مارس. وعلى هذا الأساس تم تشكيل الميليشيات العمالية، من أجل القيام أولا بدوريات في المناطق العمالية والحفاظ على النظام ومنع المذابح ونزع سلاح العناصر الإجرامية والمشاغبين. إلا أنها سرعان ما انتقلت إلى شن الهجوم ضد العناصر المعادية للثورة، بمن في ذلك مسؤولو الدولة القمعيون الممقوتون. لم تكن للميليشيات العمالية أي علاقة مع الإرهاب الفردي وحرب العصابات، بل خرجت من الحركة الجماهيرية وكانت تابعة لها، حيث كانت مرتبطة بشكل وثيق بالسوفييتات ولجان المصانع التي بدأت تظهر في كل مكان بعد ثورة فبراير. وإذا وافقنا على أن جهاز الدولة هو “هيئة لأناس مسلحين”، فإن السلطة في بتروغراد كانت في أيدي الشعب المسلح. بحلول 19 مارس، صارت هناك 85 مجموعة ميليشيا تعمل في المدينة، 20 منها تحت رقابة لجان المصانع أو الهيئات المماثلة. وكانت تضم حوالي 10.000 أو12.000 عضو مقابل 8.000 عضو في الميليشيات النظامية. وعن ذلك قال الشعبوي أ. بيشيكونوف: “في الواقع توجد السلطة بالكامل في أيدي الحشود”.

في 28 أبريل، وبمبادرة من المنشفي ن. روستوف، تم تنظيم كونفرانس لممثلين منتخبين من 156 مؤسسة من أجل إنشاء الحرس الأحمر. نص النظام الأساسي، الذي صاغه شليابنيكوف ووافق عليه سوفييت منطقة فيبورغ، التي يسيطر عليها البلاشفة، على أن أهداف هذه القوة الجديدة هي: “الكفاح ضد المؤامرات المعادية للثورة التي تقوم بها الطبقة الحاكمة [و] الدفاع، بواسطة الأسلحة، عن كل مكتسبات الطبقة العاملة”، لكن وفي الوقت نفسه “حماية حياة وأمن وممتلكات جميع المواطنين دون تمييز بسبب الجنس أو السن أو الجنسية”. كانت العضوية مفتوحة لأي رجل أو امرأة يمكنه/ها إثبات عضويته/ها في أحد الأحزاب الاشتراكية أو النقابات، وتم انتخابه/ها أو التوصية به/ها في اجتماع عام لزملائه/ها في العمل. كانت الوحدة الأساسية هي فرقة العشرة (ديسياتوك) والتي كان من المفترض أن تجتمع فيما بينها لتشكيل “سوتنيا”، أو فرقة المائة، وكانت عشر فرق من هذه الأخيرة تتجمع لتشكيل كتيبة. كانت القوة بأكملها تحت رقابة سوفييت المنطقة (الذي كان في معظمه تحت رقابة البلاشفة). كان جميع الضباط منتخبين من طرف القواعد.

وهكذا اعتبرت الميليشيات العمالية دورها في البداية دورا دفاعيا بحتا. لكن ومن خلال التجربة، أصبح دورها يتحول، بشكل غير محسوس تقريبا، من الدفاع إلى الهجوم، حتى تمكنت بحلول نوفمبر، وتحت قيادة البلاشفة، من أن تطرح مطلب الاستيلاء على السلطة على رأس جدول الأعمال. قدر أحد المحللين المعاصرين أن تلك الميليشيات ضمت في صفوفها، عشية ثورة أكتوبر، ما بين 70.000 و100.000 عضو. ومن بين هؤلاء كان هناك ما يقرب من15.000 و20.000 عضو في بتروغراد والمنطقة المحيطة بها، وما بين 10.000 و15.000 في موسكو والمنطقة الصناعية الوسطى.

ومع كل يوم يمر كان دور القادة الإصلاحيين للسوفييتات ينكشف أكثر فأكثر. أصدر المؤتمر الأول لسوفييتات عموم روسيا، الذي عقد في بتروغراد في الفترة من 03 يونيو إلى 24 يونيو، قرارا يتعهد فيه بتقديم الدعم الكامل للحكومة. كان البلاشفة يمثلون أقلية صغيرة في المؤتمر: 105 مندوبا، مقابل 533 مندوبا للمناشفة والاشتراكيين الثوريين. لكن المزاج في المصانع والحاميات العسكرية بالعاصمة كان يصير أكثر فأكثر راديكالية. وقد مكنت تلك الأعداد الكبيرة من المنخرطين الجدد في الحزب البلشفي من إيصال هذا الشعور إلى داخل الحزب. في أوائل يونيو، وتحت تأثير هذه الحالة المزاجية، قررت المنظمة العسكرية البلشفية تنظيم مظاهرة مسلحة في بتروغراد لتتزامن مع انعقاد المؤتمر. كان الغرض من المظاهرة هو ممارسة الضغط على المؤتمر، لكنها كانت أيضا استجابة للضغط المتزايد من قبل العمال الطليعيين في بتروغراد والذين كانوا يتوقون للاستيلاء على السلطة. لو أن البلاشفة لم يتقدموا لقيادة العمال آنذاك، لكانت كل أنواع العناصر اليسراوية المتطرفة الفوضوية قد استغلت الوضع لإثارة مواجهات مسلحة سابقة لأوانها مع نتائج كارثية.

وجه عمال بتروغراد رسالة واضحة للزعماء السوفيات: “استولوا على سلطة الدولة! اقطعوا مع البرجوازية! أنهوا الائتلاف وقوموا بالاستيلاء على السلطة بأيديكم!”، لكن قادة السوفييتات البرجوازيين الصغار لم يكونوا يريدون السلطة، كما أن حركة عمال بتروغراد أرعبتهم. كانوا مقتنعين بأن البلاشفة يستخدمون المظاهرة المسلحة وسيلة للاستيلاء على السلطة. لكن هذه الفكرة كانت بعيدة كل البعد عن تفكير لينين في تلك المرحلة. وعلى العكس من ذلك، كان البلاشفة يحاولون كبح جماح عمال بتروغراد، مدركين أن وقت المواجهة الحاسمة لم يحن بعد. صحيح أن العمال كان بإمكانهم الاستيلاء على السلطة في بتروغراد في يونيو. لكن المقاطعات لم تكن قد وصلت إلى مستوى العاصمة. كانت جماهير العمال والفلاحين ستفسر ذلك بأنه هجوم على حكومتـ”ها”، وكانت ستلتف حول قادة السوفييتات الذين ما كانوا ليترددوا في إغراق الحركة في الدماء. كانت الثورة الروسية ستنتهي بهزيمة بطولية، مثلما كان حال كومونة باريس. لكن لينين لم يكن ينوي السير في هذا الطريق.

وكرد فعل شن قادة السوفييتات المذعورون حملة وحشية ضد المظاهرة المرتقبة. وبما أن البلاشفة فهموا ما يعنيه ذلك، قرروا التراجع وتم إلغاء المظاهرة. لقد كانوا ما يزالون أقلية صغيرة داخل المؤتمر، وتصرفوا على ذلك الأساس. كانت المهمة الرئيسية ما تزال هي كسب الأغلبية داخل السوفييتات من خلال العمل الصبور والدعاية والتحريض. لم تطرح نهائيا مسألة الاستيلاء على السلطة بينما الحزب ما يزال أقلية صغيرة. وقد تبينت صحة قرار البلاشفة بتنظيم تراجع تكتيكي من خلال الأحداث التي وقعت بعد ذلك.

للرد على إلغاء مظاهرة البلاشفة، دعا الزعماء الإصلاحيون إلى مظاهرة “رسمية” خاصة بهم، وتلقوا صدمة حياتهم. في 01 يوليوز، تدفقت الجماهير على شوارع بتروغراد استجابة لدعوة القادة السوفييت، لكنهم حملوا في أيديهم لافتات بشعارات بلشفية: فلتسقط المعاهدات السرية! فلتسقط سياسة الهجمات الإستراتيجية! من أجل سلام مشرف! فليسقط الوزراء الرأسماليين العشرة! وكل السلطة للسوفيات!

لم تكن في المظاهرة بأكملها سوى ثلاث لافتات تعبر عن الثقة في الحكومة المؤقتة: واحدة لفوج من القوزاق، وواحدة لمجموعة بليخانوف الصغيرة، وواحدة للبوند. لقد أثبتت هذه المظاهرة ليس للقادة الإصلاحيين فحسب، بل وأيضا للبلاشفة أنفسهم، بأنهم في بتروغراد أقوى بكثير مما كانوا يتصورون.

عندما كانا ما يزالان أقلية، بذل لينين وتروتسكي قصارى جهدهما لكبح جماح العمال والجنود من أجل تجنب مواجهة سابقة لأوانها مع الدولة. كان كل تركيزهما منصبا على التحريض والدعاية السلميين. لم يكن هذا بالأمر السهل، حيث كثيرا ما تعرض لينين وتروتسكي لغضب تلك القطاعات من العمال التي تقدمت أكثر من بقية الطبقة. وقد تعرضا لتهمة الانتهازية بسبب عدم طرحهما لمسألة الانتفاضة المسلحة على رأس جدول الأعمال. كان موقفهما من مثل هذه الانتقادات هو التجاهل. لقد كانا يدركان أن المهمة الأكثر إلحاحا هي كسب أغلبية العمال والجنود الذين ما زالوا تحت تأثير المناشفة والاشتراكيين الثوريين. كان ذلك هو الهدف الحقيقي من وراء شعار “كل السلطة للسوفييتات”. وقد حافظ لينين على هذا الموقف حتى يوليوز، عندما دعا إلى التخلي عنه لصالح شعار “كل السلطة للجان المصانع”.

في مؤتمر السوفييتات، ألقى لينين خطابا يلخص كل منهجيته في مسألة كسب العمال داخل السوفييتات. لم يتضمن خطابه أي أثر للاتهامات أو الشتائم، بل تضمن نداء بنبرة صبورة إيجابية للعمال، يأخذ في الاعتبار أوهامهم في القادة الإصلاحيين، لكنه في الوقت نفسه يقول الحقيقة كما هي. لقد نبه إلى أنه لا يوجد سوى اختيارين ممكنين:

«إما هذا الخيار أو ذاك: إما الحكومة البرجوازية المعتادة، وفي هذه الحالة فإن الفلاحين والعمال والجنود وأعضاء السوفييت الآخرين سيكونون عديمي الجدوى، وبالتالي إما سيتم سحقهم على يد الجنرالات، الجنرالات المعادين للثورة، الذين يسيطرون على القوات المسلحة ولا يأبهون بخطب الوزير كيرينسكي الرنانة، أو أنهم سيتعرضون لميتة مذلة. ليس لديهم خيار آخر. فلكي تستمر هذه المؤسسات في الوجود لا يمكنها لا التراجع ولا الوقوف ساكنة، ليس أمامها إلا مواصلة التقدم».

ثم وجه انتباهه إلى قضية الحرب الملتهبة. كان تحليله للوضع واضحا للغاية، ورسالته مباشرة، لدرجة أنه لم يكن من الممكن ألا تجد لها صدى عند المندوبين، على الرغم من أنهم كانوا في أغلبهم، آنذاك، مؤيدين للمناشفة والاشتراكيين الثوريين. وبدون أي أثر للأساليب البلاغية أو الديماغوجية، وبقوة المنطق الحديدي، شَرَّحَلينين بلا رحمة كل الكلام الدبلوماسي لإظهار المصالح الطبقية التي تكمن تحته، حيث قال:

«يواصل الرأسماليون نهب ممتلكات الشعب. الحرب الامبريالية ما زالت مستمرة. ومع ذلك فإنهم يعدوننا بالإصلاحات، والإصلاحات، والمزيد من الإصلاحات، التي لا يمكن تحقيقها على الإطلاق في ظل الظروف الحالية، لأن الحرب تسحق وتحدد كل شيء. لماذا لا تتفقون مع أولئك الذين يقولون إن الحرب لا تشن من أجل الأرباح الرأسمالية؟ ما هو المعيار؟ إن هو، أولا وقبل كل شيء، مسألة من هي الطبقة الموجودة في السلطة، من هي الطبقة التي ما زالت مسيطرة، من هي الطبقة التي ما زالت تجني مئات الآلاف من الملايين من العمليات المصرفية والمالية. إنها نفس الطبقة الرأسمالية، وبالتالي فإن الحرب ما تزال حربا إمبريالية. لم تغير لا الحكومة المؤقتة الأولى، ولا الحكومة الجديدة بمشاركة الوزراء شبه الاشتراكيين، أي شيء في جوهر المسألة. المعاهدات السرية ما زالت سرية. وروسيا تقاتل من أجل المضايق وتقاتل من أجل مواصلة سياسة لياخوف في بلاد فارس، وهلم جرا.

أعلم أنكم لا تريدون ذلك، أن معظمكم لا يريدون ذلك، وأن الوزراء لا يريدون ذلك، لأنه لا يمكن لأحد أن يريد ذلك، لأنه يعني ذبح مئات الملايين من الناس. لكن خذوا الهجوم الذي يتحدث عنه كثيرا المليوكوفيون والمكلاكوفيون. إنهم يعرفون تمام المعرفة ماذا يعني ذلك. إنهم يعلمون أن ذلك مرتبط بمسألة السلطة، بمسألة الثورة. يقال لنا إنه يجب علينا التمييز بين القضايا السياسية والاستراتيجية. إنه من السخيف طرح هذه المسألة أصلا. إن الكاديت يفهمون تماما أن المسألة المطروحة للنقاش هي مسألة سياسية.

من الافتراء القول إن الكفاح الثوري من أجل السلام الذي بدأ من الأسفل قد يؤدي إلى معاهدة سلام منفصلة. إن الخطوة الأولى التي يجب أن نتخذها إذا كنا في السلطة هي إلقاء القبض على الرأسماليين الكبار وقطع كل خيوط مؤامراتهم. بدون القيام بذلك سيبقى كل الكلام عن السلام دون إلحاقات أو تعويضات كلاما بدون معنى على الإطلاق. ستكون خطوتنا الثانية هي أن نعلن لجميع الشعوب فوق رأس حكوماتهم إننا نعتبر جميع الرأسماليين لصوصا: بدءا من تيريشنكو، الذي ليس أفضل من مليوكوف، بل فقط أقل غباء منه بقليل، وكذا الرأسماليين الفرنسيين والرأسماليين البريطانيين، وكل الآخرين.

لقد تورطت جريدتكم إيزفيستيا في حالة من التشوش وتقترح الحفاظ على الوضع الراهن بدلا من السلام دون إلحاقات وتعويضات. إن فكرتنا عن السلام “بدون إلحاقات” مختلفة. حتى مؤتمر الفلاحين اقترب من الحقيقة عندما تحدث عن جمهورية “فيدرالية”، وبذلك عبر عن فكرة أن الجمهورية الروسية لا تريد قمع أي أمة، سواء بالطريقة الجديدة أو القديمة، ولا ترغب في إخضاع أي أمة، لا فنلندا ولا أوكرانيا، واللذان يتم خلق صراعات غير مقبولة وغير محتملة معهما. إننا نريد جمهورية روسيا واحدة غير مقسمة وحكومة ثابتة. لكنه لا يمكن تأمين حكومة ثابتة إلا بالاتفاق الطوعي لجميع الشعوب المعنية. إن “الديمقراطية الثورية” كلمة كبيرة، لكن يتم تطبيقها على حكومة تتسبب بأخطائها في تعقيد مشكلة أوكرانيا وفنلندا، اللتان لا تريدان الانفصال. إنهما تقولان فقط: “لا تؤجلوا تطبيق المبادئ الأساسية للديمقراطية حتى الجمعية التأسيسية!”.

لا يمكن إبرام معاهدة سلام بدون إلحاقات أو تعويضات حتى تتخلوا عن الإلحاقات التي قمتم بها. إنه أمر مثير للسخرية، إنها مهزلة​​، كل عمال أوروبا يضحكون علينا، قائلين: إنكم تتحدثون ببلاغة شديدة وتدعون الشعوب إلى الإطاحة برأسمالييهم، لكنكم ترسلون رأسمالييكم إلى الوزارة. اقبضوا عليهم، افضحوا حيلهم، اكشفوا مؤامراتهم! لكنكم لا تقومون بذلك رغم امتلاككم لمنظمات قوية لا يمكن مقاومتها. لقد مررتم من تجربة 1905 و1917. وتعلمون أن الثورة لا تصنع تحت الطلب، وأن الثورات في البلدان الأخرى قد تمت بطريقة الانتفاضة الشاقة الدموية، وأنه لا توجد في روسيا أي جماعة أو طبقة، قد تقاوم سلطة السوفييتات. في روسيا، وبفضل ظروف استثنائية، يمكن لهذه الثورة أن تكون ثورة سلمية. وإذا ما قامت هذه الثورة اليوم أو غدا، باقتراح السلام على جميع الشعوب عن طريق القطع مع كل الطبقات الرأسمالية، فإن كلا من فرنسا وألمانيا، أي شعبيهما، سيقبلان فورا لأن هذين البلدين قد هلكا، ولأن موقف ألمانيا ميؤوس منه، ولأنه لا يمكنها أن تنقذ نفسها ولأن فرنسا… (رئيس الجلسة: “وقتك قد انتهى”.)

سأنتهي في نصف دقيقة. (ضجة؛ صيحات من الجمهور تطالب بالسماح للمتحدث بمواصلة كلامه؛ احتجاجات وتصفيق.).»

من المعبر أن الأغلبية قررت منح المتحدث مزيدا من الوقت، فواصل لينين خطابه، حيث قام بفضح الطبيعة الإمبريالية للحرب، لكنه أخذ في الاعتبار النزعة “الدفاعية النزيهة” لجمهوره، فعمل على تفسير الانهزامية الثورية بلغة يمكن أن تلقى صدى لها بين العمال والجنود. قال: نحن لسنا سلميين، نحن على استعداد للقتال ضد القيصر [الألماني]، الذي هو أيضا عدونا. لكننا لا نثق بالرأسماليين. تخلصوا من الوزراء الرأسماليين العشرة! اجعلوا القادة السوفييت يستولون على السلطة، عندها سنشن حربا ثورية ضد الإمبريالية الألمانية، في الوقت الذي سنحارب من أجل مد الثورة إلى ألمانيا وجميع القوى المتحاربة الأخرى. هذه هي الطريقة الوحيدة للحصول على السلام:

«عندما سنأخذ السلطة بين أيدينا، سنقيد الرأسماليين، عندها لن تكون الحرب من نوع الحرب التي تدور الآن، لأن طبيعة الحرب تحددها الطبقة التي تخوضها، وليس ما هو مكتوب على الورق. يمكنكم أن تكتبوا على الورق أي شيء تريدونه، لكن طالما بقيت للطبقة الرأسمالية أغلبية داخل الحكومة، فإن الحرب ستبقى حربا إمبريالية بغض النظر عما تكتبونه، وبغض النظر عن بلاغتكم، وبغض النظر عن عدد الوزراء شبه الاشتراكيين الذين لديكم…

ما تزال الحرب حربا إمبريالية، ومهما كانت رغبتكم في السلام، ومهما كان صدق تعاطفكم مع الشعب العامل ورغبتكم في السلام – أنا مقتنع تماما أنها صادقة إلى حد بعيد- فإنكم بلا حول ولا قوة، لأنه لا يمكن إنهاء الحرب إلا بالمزيد من دفع الثورة إلى الأمام. عندما بدأت الثورة في روسيا، بدأ كذلك من الأسفل صراع ثوري من أجل السلام. إذا أخذتم السلطة بين أيديكم، وإذا ما تم نقل السلطة إلى المنظمات الثورية لاستخدامها في محاربة الرأسماليين الروس، فإن الشعوب العاملة في بعض البلدان سيصدقونكم ويمكنكم اقتراح السلام. بعد ذلك سيصير سلامنا مضمونا على الأقل مع طرفين، مع البلدين اللذان ينزفان وقضيتهما ميؤوس منها: ألمانيا وفرنسا. وإذا أجبرتنا الظروف آنذاك على شن حرب ثورية -لا أحد يدري، ونحن لا نستبعد هذا الاحتمال- سوف نقول: “نحن لسنا مسالمين، نحن لا ننبذ الحرب عندما تكون الطبقة الثورية في السلطة وتكون قد قامت بالفعل بحرمان الرأسماليين من أي فرصة للتأثير على الأمور من خلال مفاقمة الخراب الاقتصادي الذي مكّنهم من جني مئات الملايين”. إن الحكومة الثورية ستشرح لكل الأمم بالتأكيد أنه يجب أن تكون كل الأمم حرة، وذلك بألا تحارب الأمة الألمانية من أجل الحفاظ على الألزاس واللورين، كما أنه يجب على الأمة الفرنسية ألا تقاتل من أجل مستعمراتها. لأنه إذا قاتلت فرنسا من أجل مستعمراتها ، فإن روسيا تمتلك خيفا وبخارى، اللتان هما أيضا بمثابة مستعمرتين. عندها سيبدأ تقسيم المستعمرات. كيف سيتم تقسيمها؟ على أي أساس؟ على أساس موازين القوى. لكن موازين القوى تغيرت. إن الرأسماليين في وضع حيث مخرجهم الوحيد هو الحرب. وعندما ستستولون على السلطة الثورية، سيكون بمقدوركم ضمان السلام بطريقة ثورية، أي عن طريق توجيه نداء ثوري إلى جميع الأمم وشرح تكتيكاتكم من خلال إعطاء المثال بأنفسكم».

إن الأمر الأكثر إثارة للدهشة هنا هو الغياب التام لصيغة لينين السابقة حول “الانهزامية الثورية”، كما أنه لا توجد أي إشارة إلى الحرب الأهلية ولا دعوة الجنود لتحويل حرابهم ضد ضباطهم، وبالتأكيد لا تلميح إلى أن هزيمة روسيا ستكون “أهون الشرين”! هذا التغيير يعكس تحولا مهما في تفكير لينين بخصوص التكتيكات منذ فبراير. إن مسألة الدفاع عن الوطن مقابل الانهزامية الثورية، التي كثيرا ما طرحها بعبارات شديدة الوضوح في الفترة السابقة، تبين أنها ليست بتلك البساطة. إن موقف لينين من الحرب لم يتغير من حيث الجوهر بالطبع. لم يكن تغيير النظام من الاستبداد القيصري إلى الجمهورية البرجوازية الديمقراطية يعني أن الحرب من جانب روسيا صارت أقل إمبريالية من ذي قبل. لكنه عندما عاد إلى روسيا وجد، كما قال، إلى جانب الحشد الاشتراكي الشوفيني المعتاد، فئة واسعة من العمال النزيهين من أنصار الدفاع عن الوطن داخل السوفييتات والذين كان عليهم أن يتعلموا عن طريق التجربة والحجة ليفهموا الطبيعة الرجعية للحرب. إن مجرد تكرار الشعارات القديمة كان سيعني فصل البلاشفة تماما عن الطبقة العاملة. كانت هناك حاجة إلى مقاربة جديدة، مما يعكس الفرق بين الكتابة والتحدث لمجموعات صغيرة من نشطاء الحزب وبين مخاطبة الجماهير الواسعة من العمال الذين استيقظوا للتو على الحياة السياسية.