بيان التيار الماركسي الأممي: الموقف الطبقي الأممي من الحرب الأوكرانية

الحقيقة هي أول ضحية للحرب. ينطبق هذا أيضا على حالة التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا. يجب على الماركسيين أن يكونوا قادرين على اختراق ضباب الأكاذيب والدعاية المضللة للحرب وتحليل الأسباب الحقيقية وراء الصراع؛ ودوافعه؛ والمصالح الحقيقية التي تكمن وراء أعذار ومبررات الأطراف المختلفة. يجب علينا، قبل كل شيء، أن نقوم بذلك من وجهة نظر مصالح الطبقة العاملة العالمية.

[Source]

إننا إذ نعارض التدخل الروسي في أوكرانيا، نفعل ذلك لأسبابنا الخاصة، التي سنشرحها هنا، والتي لا علاقة لها بالصيحات المنافقة التي تطلقها وسائل الإعلام العاهرة. وغني عن الذكر إن واجبنا الأول هو فضح النفاق والأكاذيب المقززة للإمبريالية الأمريكية والغربية.

إنهم يدينون بصوت عال غزو روسيا لأوكرانيا، وذلك على أساس أنه ينتهك “السيادة الوطنية” و”القانون الدولي”.

تفوح من هذه التصريحات رائحة النفاق، إذ أن الإمبريالية الأمريكية وأتباعها الأوروبيين هم على وجه التحديد الذين لديهم تاريخ طويل ودامي من انتهاك السيادة الوطنية، وما يسمى بـ”القانون الدولي”.

ففي سعيهم لتحقيق أهدافهم الإمبريالية، لم يترددوا أبدا في قصف وغزو بلدان ذات سيادة (العراق)، وذبح المدنيين (فيتنام)، وتنظيم الانقلابات العسكرية الفاشية (تشيلي) والاغتيالات السياسية (أليندي ولومومبا). إنهم آخر من يحق له فوق وجه الأرض إلقاء محاضرات حول فضائل السلام والديمقراطية والقيم الإنسانية.

يتناقض كل هذا الحديث عن السيادة الأوكرانية مع حقيقة أن البلاد كانت، منذ انتصار حركة ميدان عام 2014، تحت سيطرة متزايدة من جانب الولايات المتحدة. كل مفاتيح السلطة الاقتصادية والسياسية الرئيسية محتكرة بين أيدي الأوليغارشية الفاسدة وحكومتها، والتي هي بدورها مجرد دمية وبيدق في يد الإمبريالية الأمريكية.

صندوق النقد الدولي هو من يملي السياسات الاقتصادية على أوكرانيا، وتلعب السفارة الأمريكية دورا رئيسيا في تشكيل حكوماتها. إن الحرب الحالية هي، في الواقع، وإلى حد كبير، صراع أمريكي روسي، يتم خوضه فوق أراضي أوكرانيا.

عدوان الناتو

بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ضعفت مكانة روسيا بشدة على الساحة الدولية. وقد استغلت الإمبريالية الأمريكية هذا الواقع للتقدم نحو الشرق، وتوسيع مجال نفوذ حلف الناتو حتى حدود روسيا، على الرغم من كل الوعود بعدم القيام بذلك.

وفي هذا السياق شعرت الإمبريالية الأمريكية بأنها قوية للغاية، وأعلنت واشنطن قيام “نظام عالمي جديد”. قامت الإمبريالية الأمريكية بالتدخل في مناطق نفوذ الاتحاد السوفياتي السابق، مثل يوغوسلافيا والعراق. وكان على روسيا أن تعاني من إذلال حرب الناتو على صربيا. تلت ذلك سلسلة متواصلة من الثورات “الملونة” لإقامة حكومات موالية للغرب؛ ونشر القوات في أوروبا الشرقية، مصحوبة بتدريبات عسكرية بالقرب من حدود روسيا؛ واستفزازات أخرى لا حصر لها.

لكن لكل شيء حدوده. كانت هناك نقطة قالت فيها الطبقة السائدة الروسية، التي يمثل بوتين مصالحها، كفى. وقد تم الوصول إلى تلك النقطة عام 2008، مع الحرب في جورجيا، التي كانت تخطط للانضمام إلى الناتو.

قامت روسيا، التي استغلت حقيقة أن الإمبريالية الأمريكية كانت متورطة في مستنقع العراق، بشن حرب قصيرة وشرسة ضد جورجيا، ودمرت جيشها (الذي تم تدريبه وتجهيزه من قبل الناتو) ثم انسحبت، بعد أن أمنت نقاط دعم لها في جمهوريتي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، اللتان انفصلتا عن جورجيا.

كانت إطاحة حركة ميدان بحكومة يانوكوفيتش في أوكرانيا بمثابة تقدم جديد لمصالح الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي في الأراضي الحدودية التاريخية لروسيا. كان ذلك استفزازا كبيرا، وقد ردت روسيا في عام 2014 بضم شبه جزيرة القرم، التي يسكنها في الغالب سكان ناطقون بالروسية، وتعتبر قاعدة للأسطول الروسي في البحر الأسود، الموجود في سيفاستوبول. كما قدمت مساعدة عسكرية للمتمردين خلال الحرب الأهلية، بين سكان دونباس الناطقين بالروسية وبين النظام القومي اليميني في كييف. احتج الغرب وطبق العقوبات، لكن لم تكن لذلك عواقب جدية على روسيا.

وفي عام 2015، بعد أن اتضح أن الولايات المتحدة ليست مستعدة لإرسال قوات برية إلى سوريا، تدخلت روسيا إلى جانب الأسد وحسمت نتيجة الحرب الأهلية. تعتبر سوريا منطقة مهمة بالنسبة لروسيا لأنها تضم ​​قاعدتها البحرية الوحيدة في البحر الأبيض المتوسط. وكانت النتيجة انتكاسة خطيرة للإمبريالية الأمريكية، في منطقة لها أهمية استراتيجية بالنسبة لها.

وقد وجد بوتين الآن فرصة أخرى لإعادة تأكيد قوة روسيا. لقد عانت الولايات المتحدة لتوها من هزيمة مذلة في أفغانستان. بينما تمكنت روسيا من التوسط في احلال السلام بعد الحرب الأذربيجانية الأرمينية عام 2020؛ وتدخلت لدعم لوكاشينكو في بيلاروسيا في 2020-2021؛ ثم تدخلت عسكريا في كازاخستان مطلع عام 2022.

لعبت الاستفزازات المتزايدة التي أطلقتها حكومة زيلينسكي دورا خطيرا. فبعد الإطاحة بيانوكوفيتش، عام 2014، بدأت الحكومة الأوكرانية تطرح مسألة العضوية في الناتو والاتحاد الأوروبي. ثم تم تكريس ذلك في دستور 2020. تم انتخاب زيلينسكي، الممثل الكوميدي الذي تحول إلى رئيس، عام 2019، على أساس كونه مستقلا عن المؤسسة الرسمية، وشخصا وعد بتنظيف السياسة، والتعاطي مع الأوليغارشية، وفي نفس الوقت صنع السلام مع روسيا.

لكنه، وبضغط من اليمين المتطرف وبتحريض من واشنطن، انتهج سياسات معاكسة.

تم وضع مسألة عضوية الناتو على رأس جدول الأعمال مرة أخرى وتم طرحها بقوة. نظرت روسيا إلى ذلك، بحق، على أنه تهديد. يمكن للمرء أن يقول إن الأمر ليس كذلك، وأن البلدان الأخرى، التي تشترك في الحدود مع روسيا، هي بالفعل جزء من الناتو. لكن هذا القول يغفل تماما جوهر المسألة. إن الوضع الحالي هو بالضبط نتيجة لعقود من سعي الإمبريالية الغربية لتطويق روسيا، التي ترد الهجوم الآن.

هل كان الغزو حتميا؟

لقد تغير الكم، ديالكتيكيا، إلى نوع. وباستخدام لغة الفيزياء نقول إنه تم الوصول إلى نقطة حرجة حيث صار اندلاع الأعمال العدائية على جدول الأعمال بوضوح.

ومع ذلك فإن هناك دائما خيارات مختلفة، حتى في الحروب. فلو كان بإمكان بوتين تحقيق أهدافه دون تحمل كل عناء الغزو، مع كل المخاطر والتكاليف التي قد تترتب عنه، فمن الواضح أنه كان سيفضل اتخاذ ذلك المسار. لقد كان هذا الاحتمال موجودا بالتأكيد في البداية، وبدا لنا أنه الفرضية الأكثر احتمالا.

كانت هناك بعض المؤشرات على أن الولايات المتحدة ستكون مستعدة لتقديم تنازلات معينة. ولما لا؟ حيث أن بايدن صرح علنا أن قضية عضوية أوكرانيا في الناتو هي خارج جدول الأعمال في المستقبل المنظور. لكن الأحداث اتخذت مسارا مختلفا في النهاية.

كان بوتين يستخدم التهديد بالعمل العسكري (بينما ينفي أنه سينفذه) من أجل إجبار الإمبريالية الأمريكية على الجلوس إلى طاولة المفاوضات. كانت مطالبه واضحة بما فيه الكفاية: لا لعضوية أوكرانيا في الناتو، ووضع حد لتوجه الناتو نحو الشرق، وتقديم ضمانات أمنية في أوروبا.

تتوافق هذه المطالب تماما مع مصالح الرأسمالية الروسية، وبالتالي فهي تتعارض تماما مع مصالح واشنطن. لذلك لم تكن الإمبريالية الأمريكية مستعدة للتنازل ولو شبرا واحد لمطالب روسيا. إلا أنها لم تكن مستعدة كذلك لإرسال قوات برية للدفاع عن أوكرانيا. وهكذا فإن التهديد بالعقوبات، التي لم تكن مدعومة بعمل عسكري، لم تفعل شيئا لردع بوتين بطبيعة الحال.

للأحداث ديناميتها الخاصة. عندما لم يحصل بوتين على التنازلات المتوقعة، لم يعد أمامه بديل سوى التحرك. كان وقت الألعاب قد انتهى.

ما هو سبب عناد الإمبريالية الأمريكية في رفض تقديم أي تنازلات؟ السبب هو أنه لا يمكنها أن تظهر على أنها تستسلم للتهديدات. كان من شأن ذلك أن يزيد في تقويض سلطة الإمبريالية الأمريكية على الصعيد العالمي. لكن الشيء نفسه كان صحيحا من وجهة نظر بوتين.

الرفض العنيد من جانب الغرب ولو لمراعاة مطالب روسيا، جعل بوتين في موقف صار عليه فيه إما أن يتصرف بناء على تهديداته، أو يضطر إلى التنازل. وهذا ما حدد مسار الأحداث اللاحقة.

ومثله مثل لاعب الشطرنج، كان بوتين قد أخذ في الاعتبار بالفعل عدم رغبة الإمبريالية الغربية في التدخل بقواتها مباشرة في أوكرانيا، وكان قد خصم بالفعل تكلفة العقوبات. ومع قوة هائلة قوامها 190 ألف جندي، تم تجميعها بالفعل على حدود أوكرانيا، كانت خطوته التالية محددة سلفا.

تحتاج أي حرب عدوانية إلى بعض المبررات دائما. ففي خطابه الموجه للرأي العام في روسيا، استخدم بوتين ذريعة القصف الأوكراني لدونيتسك، والذي وصفه بأنه “إبادة جماعية”. هذه مبالغة، لكن لا ينبغي الاستهانة بها، مثلما فعل الإمبرياليون.

لا مجال للتشكيك في القمع الوحشي الذي عانى منه سكان دونباس الناطقون بالروسية على أيدي الجيش الأوكراني. ففي السنوات الثماني الماضية، قُتل في ذلك الصراع حوالي 14000 شخص، غالبيتهم العظمى من المدنيين من منطقة دونيتسك. وتشير التقديرات إلى أن 80% من القذائف جاءت من جانب الجيش الأوكراني.

رفع بوتين التحدي باعترافه بجمهوريتي دونباس وإرسال قواته إلى هناك لدعم قراره. كانت تلك إشارة لشن هجوم عسكري على أوكرانيا.

ما هي أسباب تصرفات بوتين؟

من وراء كل هذا يسعى فلاديمير بوتين طبعا إلى تحقيق مصالحه الخاصة. فمن خلال إثارته للحماسة القومية يأمل في استعادة الشعبية التي فقدها في الآونة الأخيرة، بسبب الأزمة الاقتصادية والهجمات على العمال وعلى معاشات التقاعد، والحقوق الديمقراطية ، إلخ.

لقد نجح ذلك في عام 2014، مع ضم شبه جزيرة القرم، ويعتقد الآن أنه يستطيع تكرار الحيلة.

إنه يريد أن يظهر كرجل قوي قادر على الوقوف في وجه الغرب والدفاع عن الروس أينما كانوا. ويتظاهر بأنه المدافع عن السكان الروس في دونباس. هذا كذب، فبوتين لا يأبه لمحنة شعب دونباس.

لقد استخدم جمهوريتي دونيتسك ولوهانسك كورقتي لعب لتحقيق أهدافه في أوكرانيا. كان هذا هو المعنى الحقيقي لاتفاقيات مينسك.

لديه في الواقع أوهام العظمة الإمبراطورية. إنه يرى نفسه مثل قيصر، يريد اتباع خطى الإمبراطورية الروسية قبل عام 1917، وشوفينية روسيا العظمى الرجعية. إن الزعم بأن مثل هذا الرجل يمكنه أن يلعب أي دور تقدمي في أوكرانيا هي فكرة سخيفة للغاية.

الإمبريالية الروسية

روسيا ليست بلدا ضعيفا تسيطر عليه الإمبريالية. بل على العكس من ذلك تماما. روسيا قوة إقليمية، لا يمكن وصف سياساتها إلا بأنها إمبريالية. والسبب الحقيقي للحرب الروسية في أوكرانيا هو محاولتها تأمين مناطق النفوذ ومصالح الأمن القومي لرأس المال الروسي.

قد يعترض شخص صوري ميؤوس منه بأن روسيا لا تمتلك كل الميزات التي حددها لينين في كتابه الشهير: “الإمبريالية: المرحلة القصوى للرأسمالية”. ربما يكون الأمر كذلك، لكن هذا لا يعني مطلقا أن روسيا ليست إمبريالية. ويمكن العثور على الإجابة على هذا الاعتراض في نفس كتاب لينين.

يصف لينين روسيا بأنها “البلد الأكثر تخلفا من الناحية الاقتصادية، حيث الإمبريالية الرأسمالية الحديثة واقعة، إذا جاز التعبير، في شراك شبكة ضيقة بشكل خاص من العلاقات ما قبل الرأسمالية”. لكنه في الوقت نفسه، يصنف روسيا القيصرية باعتبارها واحدة من البلدان الإمبريالية الخمسة الرائدة. وهذا على الرغم من حقيقة أن روسيا القيصرية كانت متخلفة اقتصاديا ولم تصدر قط ولو كوبيكا واحدا من رأس المال.

لم تعد روسيا اليوم هي نفس ذلك البلد المتخلف وغير المتطور، كما كانت قبل عام 1917. إنها الآن بلد صناعي متقدم حيث توجد درجة عالية من تركيز رأس المال، وحيث يلعب القطاع المصرفي (الذي يعرف بدوره تركيزا شديدا) دورا رئيسيا في الاقتصاد .

لا يتغير هذا الواقع بسبب حقيقة أن الغاز والنفط يلعبان دورا رئيسيا في الاقتصاد الروسي. وعلاوة على ذلك فإن هذه الموارد ليست تحت سيطرة الشركات متعددة الجنسيات الأجنبية، بل هي في أيدي الأوليغارشية الروسية. إن السياسة الخارجية لروسيا مدفوعة إلى حد كبير بالحاجة إلى ضمان أسواق لصادراتها من الطاقة (خاصة في أوروبا) ووسائل إيصالها.

صحيح أنه لا يمكن وضع روسيا في نفس المستوى مع الولايات المتحدة. ما تزال الولايات المتحدة القوة الإمبريالية المهيمنة في العالم. وليست روسيا، بالمقارنة معها، سوى قوة إمبريالية صغيرة أو متوسطة الحجم. اقتصاد روسيا ليس في نفس حجم اقتصاد الولايات المتحدة ولا حتى اقتصاد القوى الإمبريالية الأوروبية.

لكن لا يمكن لأي شخص عاقل أن ينكر أن روسيا قوة إمبريالية إقليمية لديها طموحات في آسيا الوسطى والقوقاز والشرق الأوسط وأوروبا الشرقية والبلقان.

لقد ورثت روسيا ترسانة نووية من الاتحاد السوفياتي، واستثمرت بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة في تحديث جيشها. إنها تُصنف ضمن أكبر خمسة بلدان من حيث الإنفاق العسكري في العالم، وقد نما إنفاقها العسكري خلال السنوات الأخيرة بنسبة 30%، وهي ثالث أكبر بلد في العالم من حيث الإنفاق العسكري بالنسبة لحصة الناتج المحلي الإجمالي (4.3%).

حرب روسيا في أوكرانيا حرب رجعية إمبريالية لا يمكننا دعمها. سيكون لها أكثر الآثار سلبية على أوكرانيا وروسيا وعلى الصعيد العالمي. لهذه الأسباب نحن نعارض حرب روسيا على أوكرانيا.

تولد هذه الحرب كراهية قومية بين شعوب وحدتها منذ مدة طويلة علاقات الأخوة الوثيقة، وتزيد من تأجيج النزعة القومية الأوكرانية الرجعية من ناحية، والنزعة الشوفينية الروسية الرجعية من ناحية أخرى، مما يزرع الانقسام الحاد بين صفوف الطبقة العاملة على أسس قومية واثنية ولغوية.

إن الضمانة الرئيسية ضد هذا السم القومي هو أن يحتفظ العمال الروس بموقف بروليتاري أممي حازم، ويقفوا بحزم ضد السم الشوفيني ويعارضوا سياسات بوتين الرجعية، في الداخل والخارج. والموقف الذي يتبناه الفرع الروسي للتيار الماركسي الأممي نموذجي في هذا الصدد.

وعلى العمال الأوكرانيين، في الوقت الذي يقاومون فيه العدوان الروسي، أن يفهموا أن بلادهم قد تعرضت للخيانة بشكل مخجل من قبل أولئك الذين زعموا أنهم أصدقاءهم وحلفائهم. لقد دفعتهم النسور الإمبريالية الغربية عمدا إلى الحرب، ثم تراجعت إلى الوراء ووقفت تتفرج على أوكرانيا وهي تغرق في مستنقع دموي. وعدهم لاحقا بإرسال إمدادات محدودة من الأسلحة، لكن دون أي قوات بالطبع، محاولة كلبية لإطالة أمد الصراع لأجل إعاقة القوات الروسية والتسبب في أكبر عدد من الضحايا من كلا الجانبين، ولأجل تسجيل نقاط دعائية رخيصة ضد روسيا.

الحديث عن العقوبات، والخطاب العدائي حول “القتال حتى النهاية”، مع رفض إرسال ولو جندي واحد للقتال في أوكرانيا، وذرف دموع التماسيح حول معاناة الأوكرانيين المساكين، وما إلى ذلك، كل هذا لا يمكنه أن يخفي ولو للحظة واحدة الحقيقة الواضحة حول أن أوكرانيا قد عوملت على أنها بيدق في لعبة كلبية للقوى الكبرى.

أيها الأوكرانيون! افتحوا أعينكم وافهموا أنه قد تمت التضحية ببلدكم على مذبح الإمبريالية الدموي! وافهموا أن أصدقائكم الحقيقيين الوحيدين هم عمال العالم!

العواقب على الشؤون العالمية

ستكون للحرب في أوكرانيا تداعيات عميقة على الصعيد العالمي. الولايات المتحدة هي القوة الإمبريالية المهيمنة في العالم والقوة الأكثر رجعية على هذا الكوكب. لكن الأزمة الحالية فضحت الضعف الأساسي للإمبريالية الأمريكية.

لقد تآكلت قوتها تدريجيا بسبب الأزمة العامة للرأسمالية العالمية، والتي تم التعبير عنها في اندلاع اضطرابات هائلة وحروب تستنزف كميات هائلة من الدماء والثروات يستحيل حتى على أغنى بلد على وجه الأرض أن يتحملها.

لقد كشفت النتيجة الكارثية للاحتلال العسكري للعراق وأفغانستان عن هذا الضعف ليراه الجميع. كان ذلك أحد العناصر التي أقنعت بوتين بشن الحرب في أوكرانيا. لقد حسب أن الأمريكيين لن يتدخلوا عسكريا، ولم يكن مخطئا في ذلك.

بعد تكبد الهزائم في سلسلة من المغامرات الخارجية، والتي كانت باهظة الثمن بشكل رهيب ولم تقدم أي حل، لم يعد لدى الرأي العام في الولايات المتحدة أي شهية للمغامرات العسكرية. لقد تم تقييد أيدي بايدن بشكل فعال.

لن تخفى هذه الملاحظة عن أنظار الصين التي ظهرت الآن باعتبارها منافسا قويا للإمبريالية الأمريكية. لقد واجهت الولايات المتحدة في أجزاء كثيرة من العالم، وتعتبرها واشنطن تهديدا أكبر بكثير من روسيا.

لم تعد الصين ذلك البلد الضعيف والمتخلف اقتصاديا، والتابع، مثلما كانت في عام 1949. لديها الآن قاعدة صناعية قوية وقوة عسكرية هائلة. وهي لا تخفي مخططاتها بشأن تايوان، التي تقول إنها ترغب في لم شملها مع الصين من خلال المفاوضات السلمية، لكن إذا لم يكن ذلك ممكنا، فقد تفعل ذلك بالوسائل العسكرية.

كانت القضية الأوكرانية درسا مفيدا لبكين حول حدود القوة العسكرية الأمريكية. وعلى الرغم من أنها لم ترغب في استفزاز شركائها التجاريين في الغرب، من خلال دعم روسيا علنا -وبالتالي امتنعت عن التصويت في مجلس الأمن-، فقد أوضحت تماما أنها تلوم الولايات المتحدة على دفعها أوكرانيا للانضمام إلى الناتو.

من الواضح أن الصين قد توصلت إلى اتفاق مع روسيا لتخفيف آثار العقوبات (وهذا سبب آخر لفشل تلك العقوبات). سوف تؤدي القضية الأوكرانية بلا شك إلى حدوث تكتل أوثق بين الإمبرياليين الروس والصينيين خلال الفترة المقبلة، وهو تطور يجب أن تخشاه واشنطن مثلما يخشى الشيطان الماء المقدس.

الانشقاقات بين الإمبريالية الأمريكية وبين حلفائها الأوروبيين

لقد أدى الصراع في أوكرانيا بين مصالح الولايات المتحدة وروسيا، إلى ظهور الانقسامات بين واشنطن وحلفائها الأوروبيين، وخاصة فرنسا وألمانيا. حاولت البرجوازية الفرنسية تقليديا الحفاظ دائما على بعض مظاهر الاستقلالية، وتطوير أسلحتها النووية وتنمية مجال نفوذها الإمبريالي في إفريقيا وأماكن أخرى. وقد حاول ماكرون لعب دور مستقل في هذا الصراع. كان الدافع وراء ذلك جزئيا هو الانتخابات الرئاسية المقبلة، لكن موقف باريس وبرلين يقوم أيضا على المصالح الاقتصادية.

تعتمد أوروبا بشكل كبير (40%) على استيراد الغاز الروسي. ينطبق هذا بشكل خاص على ألمانيا، التي تستورد 60% من غازها الطبيعي من روسيا، بالإضافة إلى وجود استثمارات مهمة هناك. هذا هو السبب الحقيقي وراء إحجام ألمانيا عن اتخاذ أي خطوات من شأنها أن تؤدي إلى تفاقم الصراع، وإحجامها عن تنفيذ العقوبات على روسيا.

وفي اللحظة التي سينتهي فيها هذا الصراع (وهو الشيء الذي سوف يحدث بطريقة أو بأخرى)، سيتم إسقاط تلك العقوبات والعديد من العقوبات الأخرى، لأن تأثيرها الضار على الاقتصاد الأوروبي -وفي المقام الأول على ألمانيا- سيكون أصعب مما يمكن تحمله. لا تستطيع ألمانيا، على الرغم من كل الادعاءات بعكس ذلك، العثور على مصادر مستدامة بديلة للنفط والغاز بأسعار مناسبة.

ألمانيا قوة إمبريالية في حد ذاتها، وسياستها الخارجية تمليها مصالح رأس المال الألماني، والتي لا تتماشى بالضرورة مع مصالح رأس المال الأمريكي. يتحكم رأس المال الألماني في أوروبا من خلال آليات الاتحاد الأوروبي. لقد عملت على مدى 30 عاما على توسيع نفوذها نحو أوروبا الشرقية والبلقان (حيث لعبت دورا حاسما في التقسيم الرجعي ليوغوسلافيا) وتدفعها تجارتها الخارجية إلى الارتباط بشكل وثيق مع الصين.

بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، فرضت عليها قيود على مقدار ما هو مسموح لها بامتلاكه لإعادة بناء جيشها. كانت الطبقة السائدة الألمانية حريصة دائما على ألا يُنظر إليها على أنها تلعب دورا مباشرا في المغامرات العسكرية الإمبريالية الخارجية، على الرغم من أنها كانت جزءا من الناتو. لكن هذا التردد تم كسره منذ بعض الوقت. ففي التسعينيات أرسلت ألمانيا، تحت إشراف وزير خارجية من حزب الخضر، قواتها إلى يوغوسلافيا. وبينما عارضت غزو العراق عام 2003، فقد أرسلت قواتها إلى أفغانستان.

لقد استخدمت ألمانيا الآن ذريعة الحرب في أوكرانيا للشروع في برنامج ضخم للإنفاق العسكري. من الحتمي أن تسعى أي قوة إمبريالية إلى أن تمتلك قوة عسكرية تضاهي قوتها الاقتصادية.

العدو الرئيسي للإمبريالية الأمريكية ليس هو روسيا بالطبع، بل الصين. وقد اتضح بشكل جلي أن هناك توجه أمريكي نحو آسيا. لقد انحازت الصين في هذا الصراع إلى جانب روسيا. لكن مصالح الصين لا تنطبق تماما مع مصالح روسيا. الإمبريالية الصينية تدافع عن مصالح الرأسماليين الصينيين، بما في ذلك حماية أسواق صادراتهم في الغرب. ولهذا السبب فإن الصين لا تريد أن تظهر علنا على أنها مسؤولة عن تصرفات روسيا، رغم أنها بالطبع تدعمها.

ليس هناك مطلقا أي احتمال لاندلاع حرب عالمية جديدة بين الولايات المتحدة وروسيا، ولا بين الولايات المتحدة والصين، وذلك جزئيا على وجه التحديد بسبب التهديد بحرب نووية، لكن أيضا بسبب المعارضة الحازمة لمثل هذه الحرب من جانب الجماهير. لا يشن الرأسماليون الحروب من أجل الوطنية أو الديمقراطية أو أي من المبادئ السامية الأخرى. إنهم يشنون الحرب من أجل الربح، والاستيلاء على الأسواق الخارجية، ومصادر المواد الخام (النفط)، وتوسيع مناطق النفوذ.

لكن الحرب النووية ستعني التدمير المتبادل لكلا الجانبين. بل إنهم صاغوا عبارة لوصف هذا الخطر وهي: تدمير متبادل مؤكد (MAD). ومن البديهي أن مثل هذه الحرب لن تكون في مصلحة أصحاب الأبناك والرأسماليين.

العواقب الاقتصادية

جانب آخر مهم للمسألة هو تأثير الحرب في أوكرانيا والعقوبات الغربية على روسيا على الاقتصاد العالمي.

في نهاية عام 2019 كان الاقتصاد العالمي يتجه بالفعل نحو ركود جديد. وبينما بدأنا نعود إلى نوع من الحياة الطبيعية بعد صدمة الجائحة، فإن الوضع هش للغاية. لم تسترد جميع البلدان حتى الآن مستويات الإنتاج التي كانت تسجلها قبل انتشار الجائحة. الاقتصاد العالمي مليء بالعديد من التناقضات. وأي صدمة يمكن أن تدفعه إلى الركود.

الأزمة في أوكرانيا أدت بالفعل إلى زيادة حادة في أسعار الطاقة، والتي يمكن أن تصبح أسوء. يضيف هذا إلى الضغوط التضخمية على الاقتصاد العالمي وإلى عوامل أخرى تدفع بالفعل نحو ركود تضخمي، أي ركود اقتصادي مقترن بارتفاع الأسعار. قدر بعض الاقتصاديين البرجوازيين أن هذا الصراع قد يخصم 0.5% من نمو الناتج الإجمالي في منطقة اليورو والمملكة المتحدة خلال عامي 2023 و2024. وهذا في وقت كانت فيه توقعات النمو هزيلة أصلا.

يمكن أن يتدهور الوضع أكثر بسرعة كبيرة. العقوبات بدأت تضر بالفعل بالاقتصاد الروسي. تشير أحدث التقارير إلى انخفاض حاد في قيمة الروبل، مما أجبر البنك المركزي على رفع أسعار الفائدة. كان هناك ارتفاع حاد في التضخم، وبدأت حشود هائلة من الناس القلقين في سحب أموالهم من البنوك. كما تم إغلاق بورصة موسكو.

استقبل المعلقون الغربيون هذه النتائج بابتهاج، متجاهلين حقيقة أن أسواق الأسهم في بلدانهم تسجل بدورها خسائر كبيرة، وأن الأسعار ترتفع عندهم أيضا. ومع ذلك فإن الآثار المباشرة على روسيا سوف تتلاشى قريبا، وستتم استعادة ما يشبه التوازن. لكن لا يمكن قول الشيء نفسه عن الاقتصاد العالمي.

إلا أن العقوبات سلاح ذو حدين. يمكننا أن نتوقع بثقة أن روسيا سترد على العقوبات. ستستخدم التهديد بقطع إمدادات الغاز عن أوروبا، وقد هدد ميدفيديف بالفعل بمصادرة المصالح الغربية في روسيا.

موقف الحركة العمالية

تضع الحرب كل تيارات الحركة العمالية على المحك، وكما كان متوقعا فقد سارع الإصلاحيون والاشتراكيون الديمقراطيون للانضمام إلى طبقتهم السائدة، باعتبارهم أكثر المدافعين حماسا عن العقوبات ضد روسيا. بينما انقسم الإصلاحيون اليساريون في الغرب إلى معسكرات مختلفة: حيث انضم بعضهم علانية إلى الطبقة السائدة تحت شعار “ارفعوا أيديكم عن أوكرانيا”؛ في حين وقع آخرون في نزعة سلمية عاجزة، مطالبين بالعودة إلى القاعدة الأسطورية لـ”القانون الدولي”، آملين في أن تتمكن “الدبلوماسية” من منع الحرب.

وفي روسيا استسلمت قيادة الحزب الشيوعي، كما كان متوقعا، لطبقتها السائدة ودعمت بالكامل تدخل بوتين الإمبريالي. في حين قام يساريون آخرون بالسير في ذيل الليبراليين، الذين يمثلون قسما آخر من الطبقة السائدة.

يجب أن يكون موقف الماركسيين الثوريين واضحا: موقف طبقي مبدئي قائم على أن “العدو الرئيسي للطبقة العاملة يوجد في الداخل”. يجب عدم وضع أي ذرة ثقة، على الإطلاق، في حلف الناتو والعصابات الإمبرياليين الغربيين، وينطبق هذا بشكل خاص على العمال والاشتراكيين في الغرب.

مهمة محاربة العصابة الرجعية في الكرملين هي مهمة العمال الروس وحدهم. ومهمة الثوريين في الغرب هي النضال ضد برجوازيتهم وضد حلف شمال الأطلسي وضد الإمبريالية الأمريكية، التي هي القوة الأكثر رجعية في العالم.

لا يمكننا أن ندعم أي طرف في هذه الحرب، لأنها حرب رجعية من كلا الجانبين. إنها، في التحليل الأخير، صراع بين مجموعتين من الإمبرياليين. نحن لا ندعم أيا منهما. شعب أوكرانيا المسكين النازف ضحية لهذا الصراع الذي لم يخلقه ولم يرغب فيه.

إن البديل الوحيد لكرنفال الرجعية ومعاناة الحرب بالنسبة للعمال والشباب الأوكرانيين هو تبني سياسة الوحدة الطبقية ضد الأوليغارشية الأوكرانية، وكذلك ضد الإمبرياليتين الأمريكية والروسية. المسألة القومية في أوكرانيا معقدة للغاية وأي محاولة لحكم البلد على أساس القومية (سواء كانت أوكرانية أو مؤيدة لروسيا)، ستؤدي حتما، كما سبق لنا أن رأينا بالفعل، إلى تفكك البلد والتطهير العرقي والحرب الأهلية.

تعني الرأسمالية، في حقبة احتضارها، الحروب والأزمات الاقتصادية. والطريقة الوحيدة لوضع حد لأهوالها هي استيلاء الطبقة العاملة على السلطة، في بلد تلو الآخر، والقضاء على هذا النظام الفاسد. ومن أجل ذلك لا بد من بناء قيادة ثورية، قيادة تقوم بحزم على أساس المبادئ الأممية الاشتراكية. وبالتالي فإن المهمة الأكثر إلحاحا اليوم هي العمل الصبور لبناء القوى الماركسية، بناء التيار الماركسي الأممي.

لندن، 28 فبراير 2022