ما هي المادية التاريخية؟ الفصل الثاني: مراحل التطور التاريخي

تاريخ البشرية بأكمله يتألف أساسا من كفاح البشرية لرفع نفسها فوق مستوى الحيوان. وقد بدأ هذا الكفاح الطويل قبل سبعة ملايين سنة، عندما وقف أجدادنا البعيدون مستقيمين لأول مرة وتمكنوا من تحرير أيديهم للعمل اليدوي. منذ ذلك الحين، نشأت مراحل متعاقبة من التطور الاجتماعي على أساس التغيرات التي طرأت على تطور القوة الإنتاجية للعمل -أي سلطتنا على الطبيعة.

[Source]

لقد اجتاز المجتمع البشري سلسلة من المراحل التي يمكن تمييزها بوضوح. تقوم كل مرحلة على نمط إنتاج محدد يعبر بدوره عن نفسه في نظام محدد للعلاقات الطبقية. ويتجلى ذلك أيضا في نظرة اجتماعية محددة، وأشكال محددة من السيكولوجيا والأخلاق والقوانين والدين.

ليست العلاقة بين القاعدة الاقتصادية للمجتمع وبين البنية الفوقية (أي الإيديولوجيا والأخلاق والقوانين والفن والدين والفلسفة، وما إلى ذلك) بسيطة ومباشرة، بل هي علاقة معقدة للغاية بل ومتناقضة. وتنعكس الخيوط غير المرئية التي تربط القوى الإنتاجية بالعلاقات الطبقية في عقول الرجال والنساء بطريقة ملتبسة ومشوهة. ويمكن للأفكار التي ترجع أصولها إلى الماضي البدائي أن تبقى مستمرة في السيكولوجيا الجماعية لفترة طويلة للغاية، وتستمر بعناد لفترة طويلة بعد اختفاء الأساس الحقيقي الذي انبثقت منه. والدين مثال واضح على ذلك. إنها علاقة جدلية متبادلة. وهذا ما شرحه ماركس نفسه بوضوح عندما قال:

«أما فيما يتعلق بعوالم الأيديولوجية التي ما تزال ترتفع عاليا في الهواء، والدين والفلسفة وما إلى ذلك، فإن لها أصل في ما قبل التاريخ، وقد وُجدت بالفعل وتم الاستيلاء عليها في الحقبة التاريخية، فيجب أن نسميها اليوم هراء. هذه المفاهيم المتنوعة الخاطئة عن الطبيعة، وعن كينونة الإنسان، وعن الأرواح، والقوى السحرية، وما إلى ذلك، لا تقوم في معظمها إلا على أساس اقتصادي سلبي؛ لكن التطور الاقتصادي المتدني في فترة ما قبل التاريخ كانت مكملة ومشروطة جزئيا، بل وناتجة عن التصورات الخاطئة عن الطبيعة. ورغم أن الضرورة الاقتصادية كانت هي القوة الدافعة الرئيسية لتطور المعرفة بالطبيعة، فإنه سيكون من الخطأ أن نحاول إيجاد الأسباب الاقتصادية لكل ذلك الهراء البدائي.

تاريخ العلم هو تاريخ التخلص التدريجي من هذا الهراء أو استبداله بهراء جديد لكن أقل سخافة. والأشخاص الذين يتعاملون مع هذا الوضع ينتمون بدورهم إلى مجالات خاصة في تقسيم العمل، ويبدو لهم أنهم يعملون في مجال مستقل. وما داموا يشكلون مجموعة مستقلة في إطار التقسيم الاجتماعي للعمل، فإن إنتاجهم، بما في ذلك أخطائهم، يكون له أثر على تطور المجتمع ككل، بل وعلى التطور الاقتصادي. لكنهم رغم ذلك يظلون تحت التأثير المهيمن للتطور الاقتصادي»[1].

ويضيف:

«لكن فلسفة كل حقبة، بما أنها مجال محدد في تقسيم العمل، تفترض مسبقا بعض المواد الفكرية المحددة التي مررها أسلافها إليها، والتي تجعل منها منطلقا لها. ولهذا السبب ما تزال البلدان المتخلفة اقتصاديا قادرة على لعب دور متقدم في الفلسفة»[2].

تلعب الإيديولوجيا والتقاليد والأخلاق والدين، وما إلى ذلك، دورا قويا في تشكيل معتقدات الناس. والماركسية لا تنكر هذه الحقيقة البديهية. وخلافا لما يؤمن به المثاليون، فإن الوعي الإنساني بشكل عام محافظ للغاية. أغلب الناس لا يحبون التغيير، وخاصة التغيير المفاجئ العنيف. إنهم يتشبثون بما يعرفونه وما هم معتادون عليه من أفكار وأديان ومؤسسات وأخلاق وقادة وأحزاب قديمة. فالروتين والعادات والتقاليد كلها تلقي بثقلها على أكتاف البشرية. ولكل هذه الأسباب يتخلف الوعي عن الأحداث.

لكن عند فترات معينة تجبر أحداث كبرى الرجال والنساء على التشكيك في معتقداتهم وافتراضاتهم القديمة. تنتزعهم من كسلهم القديم وسلبيتهم ولامبالاتهم وتجبرهم على فهم الواقع كما هو. في مثل هذه الفترات يمكن للوعي أن يتغير بسرعة شديدة. وهذا ما تعنيه الثورة. عندها يتعرض منحنى التطور الاجتماعي، الذي يمكن أن يظل ثابتا ومتواصلا إلى حد ما لفترات طويلة، للانقطاع بفعل الثورات التي تشكل القوة المحركة الضرورية للتقدم البشري.

المجتمع البشري المبكر

إذا ألقينا نظرة على كامل سيرورة تاريخ البشرية وما قبل التاريخ، فإن أول ما نراه هو البطء الشديد الذي تطور به جنسنا البشري. لقد حدث التطور التدريجي للبشر، أو المخلوقات شبه البشرية في ابتعادها عن حالة الحيوانات، نحو حالة إنسانية حقيقية، عبر ملايين السنين. وقد كانت أول قفزة حاسمة هي انفصال أشباه البشر عن أجدادهم القردة.

العملية التطورية عمياء بطبيعة الحال -أي أنها لا تنطوي على غاية أو هدف محدد. غير أن أسلافنا تمكنوا، أولا بفضل الوقوف مستقيمين، ثم باستخدام أيديهم لاستعمال الأدوات وأخيرا لصنعها، من أن يجدوا لأنفسهم مكانا في بيئة معينة دفعتهم إلى الأمام.

قبل 10 ملايين سنة كانت القرود تشكل النوع المهيمن على هذا الكوكب. وقد وُجدت بأنواع عديدة -ساكني الأشجار، وساكني الأرض، ومجموعة من الأشكال الوسيطة. وقد ازدهرت في الظروف المناخية السائدة التي خلقت بيئة مدارية مثالية. ثم تغير كل هذا. وقبل حوالي سبعة أو ثمانية ملايين سنة انقرضت معظم تلك الأنواع، لسبب غير معروف.

لمدة طويلة سيطرت على الأبحاث في أصول البشر الفكرة المثالية التي ترسخت بعناد والتي مفادها أنه بما أن الدماغ هو ما يشكل الفرق الرئيسي بين البشر وبين القردة العليا (Apes) فلابد أن أجدادنا كانوا قردة بأدمغة كبيرة. لقد سيطرت نظرية “الدماغ الكبير” بشكل كامل على الأنثروبولوجيا في بداياتها. وقد أمضى العلماء عقودا طويلة في بحث، عقيم، عن “الحلقة المفقودة”، التي كانوا مقتنعين أنها ستكون جمجمة بدماغ كبير.

لقد كان المجتمع العلمي مقتنعا بتلك النظرية إلى درجة أنه انخدع تماما بأحد أفظع عمليات الاحتيال في التاريخ العلمي. ففي 18 دجنبر 1912، أعلن عن اكتشاف شظايا جمجمة متحجرة وعظم فك يشكلان تلك الحلقة المفقودة، أطلق عليها اسم إنسان بلتداون. وقد اعتُبر ذلك اكتشافا عظيما. لكن في سنة 1953، كشف فريق من العلماء الانجليز أن ذلك الإنسان مجرد احتيال متعمد. وبدلا من أن يكون عمر تلك الشظايا مليون سنة تقريبا، وجدوا أن عمرها 500 سنة، وأن الفك يعود في الواقع إلى “إنسان الغاب” ( Orang-utan).

لماذا انخدع المجتمع العلمي بهذه السهولة؟ لأنه قدم لهم شيئا توقعوا العثور عليه: جمجمة قديمة ذات دماغ كبير. في الواقع لقد كان الوقوف بشكل مستقيم (المشي على قدمين Bipedalism) الذي حرر الأيدي للعمل، وليس حجم الدماغ، هو ما شكل نقطة التحول الحاسمة في التطور البشري.

كان إنجلز قد توقع هذا بالفعل في عمله الرائع عن أصول البشر، “دور العمل في انتقال القرد إلى إنسان“. وقد كتب عالم الأحافير الأميركي الشهير، ستيڤن جاي ڠولد، إنه من المؤسف أن العلماء لم يعيروا انتباها لما كتبه إنجلز، لأن ذلك كان سيجنّبهم مائة سنة من الخطأ. وقد أظهر اكتشاف لوسي، الهيكل العظمي المتحجر لأنثى شابة تنتمي إلى نوع جديد يدعى أوسترالوبيثيكوس أفارينيسيس، إن إنجلز كان محقا. إن بنية جسم الإنسان البدائي مشابه لجسمنا (الحوض، وعظام الساقين، وما إلى ذلك) وهذا يثبت ما يؤكد المشي على قدمين . لكن حجم الدماغ ليس أكبر بكثير من دماغ الشمبانزي.

كان أسلافنا القدماء صغار الحجم وبطيئي الحركة مقارنة مع الحيوانات الأخرى. لم تكن لديهم مخالب وأسنان قوية. وعلاوة على ذلك فإن الطفل البشري، الذي لا يولد إلا مرة واحدة في السنة، يكون عاجزا تماما عند ولادته. تولد الدلافين وهي تسبح، وتستطيع الماشية والخيول السير بعد ساعات على ولادتها، وتستطيع الأسود الركض بعد 20 يوما على ولادتها.

قارنوا ذلك بالطفل البشري الذي يحتاج إلى أشهر لكي يصير قادرا فقط على الجلوس دون دعم. أما المهارات الأكثر تطورا مثل الركض والقفز فقد يستغرق الطفل البشري سنوات لكي يتمكن منها. ولذلك، فإننا، كنوع بشري، كنا في وضع غير موات إلى حد كبير بالمقارنة مع منافسينا العديدين في السافانا بشرق أفريقيا. لقد كان العمل اليدوي، وما يرتبط به من تنظيم اجتماعي تعاوني ولغة، العنصر الحاسم في التطور البشري. لقد منح انتاج الادوات الحجرية لأسلافنا الأولين ميزة تطورية مهمة، وأدى إلى تحفيز نمو الدماغ.

كانت المرحلة الأولى، التي أطلق عليها ماركس وإنجلز اسم الوحشية، تتسم بتطور منخفض للغاية لوسائل الإنتاج، وإنتاج الأدوات الحجرية، وحياة تقوم على القنص والقطف. ونتيجة لذلك بقي خط التطور ثابتا تقريبا لفترة طويلة جدا. كان أسلوب الإنتاج القائم على القنص والقطف يمثل في الأصل الحالة العامة للبشرية. وتقدم لنا بقايا تلك المخلفات، التي كان من الممكن حتى وقت قريب ملاحظة وجودها في أجزاء معينة من العالم، أدلة ورؤى هامة عن طريقة حياة منسية منذ زمن بعيد.

ليس صحيحا القول، على سبيل المثال، إن البشر هم بطبيعتهم أنانيون. لو كان ذلك صحيحا، لكان جنسنا البشري قد انقرض قبل أكثر من مليوني سنة. لقد كان الإحساس القوي بالتعاون هو ما جمع هذه المجموعات في مواجهة الشدائد. لقد كانوا يرعون الأطفال الصغار وأمهاتهم ويحترمون أفراد العشيرة المسنين الذين يحتفظون في ذاكرتهم بالمعارف والمعتقدات الجماعية. لم يكن أسلافنا الأوائل يعرفون ما هي الملكية الخاصة، كما يشير أنطوني بيرنيت:

«التباين بين الإنسان وبين الأنواع الأخرى واضح بنفس القدر إذا ما قارنا سلوك الحيوانات في دفاعها عن مجالات نفوذها بحيازة الممتلكات من قبل الناس. تحدد الحيوانات مجالات نفوذها من خلال إشارات رمزية، مشتركة بين الأنواع بأكملها. ولكل بالغ أو مجموعة من كل الأنواع مجال نفوذ. لكن الانسان لا يظهر مثل هذا التماثل: فحتى داخل مجتمع واحد، قد تكون هناك مساحات شاسعة مملوكة لشخص واحد، بينما الآخرون لا يمتلكون أي شيء. وهناك، حتى اليوم، ملكية البشر. لكن في بعض البلدان تقتصر الملكية الخاصة على الممتلكات الشخصية. وفي بعض المجموعات القبلية حتى المقتنيات البسيطة ملكية عامة. إن الإنسان في الواقع غير مجبول بالفطرة على “غريزة الامتلاك” مثلما هو غير مجبول على “غريزة السرقة”. صحيح أنه من السهل تربية الأطفال على حب التملك؛ بيد أن شكل التملك، ومدى إقرار المجتمع له، يتباينان تباينا كبيرا من بلد إلى آخر، ومن حقبة تاريخية إلى أخرى»[3].

لعل كلمة “وحشية” ذات حمولة سيئة في أيامنا هذه بسبب الدلالات السلبية التي اكتسبتها. في القرن السابع عشر وصف الفيلسوف الإنجليزي، توماس هوبز، حياة أسلافنا الأوائل بأنها حياة «الخوف المستمر وخطر الموت العنيف، وأن حياة الإنسان منعزلة وبائسة وقاسية وقصيرة». لا شك أن حياتهم كانت شاقة، لكن هذه الكلمات لا تنصف طريقة حياة أجدادنا. كتب عالم الأنثروبولوجيا وعالم الآثار الكيني ريتشارد ليكي:

«إن وجهة نظر هوبز القائلة بأن الشعوب غير الزراعية كانت “بدون مجتمع” وأنهم كانوا “منعزلين” خاطئة إلى حد بعيد. فأن تكون قناصا وملتقطا يعني أن تعيش حياة اجتماعية إلى حد كبير، أما فيما يتعلق بعدم وجود “أي فنون” و”أي حروف”، فصحيح أن الشعوب الرحالة لا تملك إلا القليل جدا من أشكال الثقافة المادية، لكن ذلك فقط بسبب الحاجة إلى التنقل. عندما كان الكونغ ينتقلون من معسكر إلى آخر، فإنهم، شأنهم في ذلك شأن غيرهم من القناصين والقاطفين، يحملون معهم كل أمتعتهم: والتي عادة ما يصل وزنها إلى 12 كيلوغرام (26 رطلا)، وهو ما يزيد قليلا عن نصف الوزن العادي المسموح به في أغلب شركات الطيران. هذا صراع لا مفر منه بين التنقل وبين الثقافة المادية، وهكذا فإن الكونغ يحملون ثقافتهم في رؤوسهم، وليس على ظهورهم. وتشكل أغانيهم ورقصاتهم وقصصهم ثقافة غنية مثل ثقافة أي شعب من الشعوب”[4].

ويتابع قائلا:

«يشير ريتشارد لي[5] إلى أن النساء لا يعتبرن أنفسهن مستغلات: ‘إنهن يتمتعن بالنفوذ الاقتصادي والسلطة السياسية، وهي حالة تحرم منها نساء كثيرات في “العالم المتحضر”.»[6].

في تلك المجتمعات كانت الطبقات، بالمعنى الحديث، غير معروفة. لم تكن هناك دولة أو دين منظم وكان هناك إحساس عميق بالمسؤولية المجتمعية والمشاركة. الغرور والأنانية تعتبران مشاعر معادية للمجتمع ومثيرة للاشمئزاز الأخلاقي. كان التأكيد على المساواة يتطلب القيام ببعض الطقوس عندما يعود قناص ناجح إلى المعسكر. وكان الهدف من وراء تلك الطقوس هو التقليل من شأن الحدث لتثبيط مشاعر الغطرسة والغرور: “إن السلوك الصحيح للقناص الناجح”، كما يوضح ريتشارد لي، “هو التواضع والتهوين من شأن الانجاز”.

ويضيف:

«الكونغ ليس لديهم رؤساء ولا قادة. وغالبا ما تُحل المشاكل في مجتمعهم قبل وقت طويل من تحولها إلى ما قد يهدد الوئام الاجتماعي. (…) محادثات الناس ملكية مشتركة، وسرعان ما يتم نزع فتيل الصراعات من خلال المزاح الجماعي. لا أحد يعطي الأوامر أو يتلقاها. وقد سأل ريتشارد لي مرة توي غام هل للكونغ رؤساء؟ وما أثار دهشة ريتشارد لي هو أنه أجاب: “بالطبع لدينا رؤساء. في الواقع، نحن جميعا رؤساء؛ كل واحد منا رئيس نفسه”. وقد اعتبر توي غام السؤال وإجابته الظريفة نكتة رائعة»[7].

إن المبدأ الأساسي الذي يوجه كل جانب من جوانب الحياة هو المشاركة. فبين الكونغ عندما يتم قتل حيوان ما، تبدأ عملية معقدة لتقاسم اللحم النيء على أساس القرابة والتحالفات والالتزامات. ويؤكد ريتشارد لي هذه النقطة بقوة، إذ يقول:

«إن المشاركة تتخلل بعمق سلوك وقيم الرحالة الكونغ، داخل الأسرة وفيما بين الأسر، وتمتد إلى المجتمع ككل. ومثلما يشكل مبدأ الربح والعقلانية شيئا أساسيا في أخلاقيات الرأسمالية، فكذلك تحتل المشاركة مكانة مركزية في إدارة الحياة الاجتماعية في مجتمعات الرحالة»[8].

التبجح مدان بينما يتم تشجيع التواضع، كما يُظهر المقتطف التالي:

«يصف رجل من الكونغ الوضع بهذه الطريقة: “إذا ذهب رجل للقنص، فعليه عندما يعود إلى البيت ألا يتبجح قائلا: ‘لقد قتلت حيوانا كبيرا في الدغل!’، بل يجب عليه أولا أن يجلس في صمت حتى يأتي شخص آخر الى ناره [منزله] ويسأله: ‘ما الذي رأيته اليوم؟’، فيرد بهدوء: ‘آه، أنا لست قناصا جيدا. لم أرَ شيئاً على الإطلاق… ربما مجرد طريدة صغيرة’، عندها أبتسم لأنني أعلم الآن أنه قتل طريدة كبيرة”. كلما كانت الطريدة أكبر كلما كان التهوين من حجمها أكبر (…) يتم اتباع خطوات المزاح والتهوين بدقة، ليس من طرف الكونغ وحدهم، بل ايضا من طرف الكثير من الشعوب الرحالة، والنتيجة هي أنه رغم أن بعض الرجال هم دون شك قناصون أكثر براعة من غيرهم، فلا أحد يحظى بمكانة غير عادية أو تقدير خاص بسبب مواهبه»[9].

هذه القيم ليست مقتصرة على الكونغ وحدهم، بل هي ميزة للشعوب التي تعتمد القنص والالتقاط بشكل عام. بيد أن هذا السلوك ليس تلقائيا؛ فمثله مثل معظم السلوكيات البشرية، يجب تعليمه منذ الطفولة. ويقول ريتشارد لي إن كل رضيع بشري يولد بقدرة على المشاركة وقدرة على أن يكون أنانيا. “ما يتم رعايته وتطويره هو ما يعتبره كل مجتمع قيما للغاية”. وبهذا المعنى، فإن القيم الأخلاقية لتلك المجتمعات المبكرة تتفوق كثيرا على القيم الأخلاقية للرأسمالية، التي تعلم الناس أن يكونوا جشعين وأنانيين ومعادين للمجتمع.

طبعا من المستحيل ان نجزم يقينا أن هذه الصورة هي الصورة الدقيقة لكل المجتمع البشري المبكر. لكن الظروف المتشابهة تؤدي عادة إلى نتائج متشابهة، ويمكن ملاحظة الاتجاهات نفسها في العديد من الثقافات المختلفة التي في نفس مستوى التطور الاقتصادي. وكما يقول ريتشارد لي:

«لا ينبغي أن نتخيل ان هذه هي الطريقة نفسها التي عاش بها أسلافنا، لكنني أعتقد أن ما نراه عند الكونغ وغيرهم من الشعوب الرحالة هي أنماط سلوكية كانت حاسمة للتطور البشري المبكر. من بين الأنواع العديدة من البشر الأوائل الذين كانوا يعيشون قبل ما بين مليوني وثلاثة ملايين سنة، أحدها -وهو النوع الذي ننحدر منه في نهاية المطاف- وسع قاعدته الاقتصادية من خلال تقاسم الغذاء وإدراج المزيد من اللحوم في غذائه. لقد كان تطوير اقتصاد قائم على القنص والالتقاط قوة فعالة في ما جعل منا بشرا»[10].

وبمقارنة قيم المجتمعات التي تعتمد على القنص والالتقاط بقيم زماننا، لا نكون نحن دائما الأفضل. فلنقارن، على سبيل المثال، الأسرة المعاصرة بسجلها المروع في إساءة معاملة الزوجة والأطفال، والأيتام والبغايا، مع التربية الجماعية للأطفال التي مارستها البشرية خلال معظم تاريخها؛ أي قبل قدوم هذا الترتيب الاجتماعي الغريب الذي يحب الناس تسميته حضارة:

«قال هندي أمريكي لأحد المبشرين: “أنتم أيها البيض، تحبون أطفالكم فقط، أما نحن فنحب أطفال العشيرة كلهم. إنهم أطفال الجميع ونحن نهتم بهم. إنهم عظمة من عظامنا ولحم من لحمنا. جميعنا آباء وأمهات لهم. البيض متوحشون؛ إنهم لا يحبون أطفالهم. وإذا أصبح الأطفال يتامى، يتعين دفع أجور لمن يقوم برعايتهم. إننا لا نعرف شيئا عن هذه الأفكار البربرية”.»[11].

ومع ذلك فإنه يجب ألا تكون لدينا نظرة مثالية عن الماضي. لقد ظلت حياة أجدادنا الأوائل كفاحا شاقا، ومعركة مستمرة ضد قوى الطبيعة من أجل البقاء. كانت وتيرة التقدم بطيئة للغاية. لقد بدأ البشر الاوائل في صنع الادوات الحجرية منذ 2,6 مليون سنة على الأقل. وقد استمرت أقدم الأدوات الحجرية، المعروفة باسم أولدووان، لحوالي مليون سنة حتى حوالي 1,76 مليون سنة مضت، عندما بدأ البشر الأوائل يصنعون رقائق كبيرة حقا ويستمرون في شحذها عن طريق إزالة رقائق أصغر من الأطراف، مما أسفر عن نوع جديد من الأدوات: الفأس اليدوي. هذه الفأس وغيرها من أدوات القطع الكبيرة هي ما ميز الحضارة الأشولية. وقد استمرت هذه الأدوات الأساسية تُصنع لفترة زمنية طويلة، وانتهت في أماكن مختلفة قبل حوالي 400.000 و250.000 سنة مضت.

ثورة العصر الحجري الحديث

لقد كانت هذه السيرورة بطيئة ومؤلمة، كما لاحظت مجلة الإيكونوميست عشية الألفية الجديدة، حين كتبت:

«على مدى التاريخ البشري كله تقريبا، كان التقدم الاقتصادي بطيئاً إلى درجة أنه لم يكن الانسان يحس به طيلة حياته. وعلى مدى قرون كان المعدل السنوي للنمو الاقتصادي يساوي صفرا. وعندما كان النمو يحدث فقد كان بطيئا إلى درجة أن معاصريه لم يكونوا يحسونه ــ وعندما ننظر إليه اليوم لا يبدو وكأنه ارتفاع في مستويات المعيشة (وهو ما يعنيه النمو اليوم)، بل مجرد ارتفاع طفيف في عدد السكان. على مر آلاف السنين، لم يكن التقدم يعني للجميع، باستثناء نخبة ضئيلة العدد، سوى إمكانية العيش على الحد الأدنى من مستوى الكفاف»[12].

لم يبدأ التقدم البشري يتسارع إلا نتيجة أول وأهم الثورات العظيمة التي تمثلت في الانتقال من أسلوب الإنتاج البدائي القائم على القنص والالتقاط إلى الزراعة. لقد أرسى ذلك الأساس لحياة الاستقرار ونشأة أولى البلدات. تلك هي المرحلة التي يشير إليها الماركسيون باسم البربرية، وهي مرحلة بين الشيوعية البدائية وبين المجتمع الطبقي المبكر، عندما بدأت الطبقات في التشكل ونشأت معها الدولة.

مرحلة الشيوعية البدائية الطويلة، والتي هي أول مرحلة من مراحل تطور البشرية، حيث لم يكن هناك وجود للطبقات ولا للملكية الخاصة و لا الدولة، أفسحت المجال لظهور المجتمع الطبقي بمجرد أن صار الناس قادرين على إنتاج فائض يتجاوز احتياجات الحياة اليومية. عند تلك المرحلة أصبح انقسام المجتمع إلى طبقات أمراً ممكنا من الناحية الاقتصادية. نشأت البربرية من انحلال المجتمع المشاعي القديم. ومعها انقسم المجتمع لأول مرة على أساس علاقات الملكية، وبدأت الطبقات والدولة في طور التكوين، على الرغم من أن تلك الأشياء لم تنشأ إلا تدريجيا، وانتقلت من مرحلة جنينية إلى أن توطدت في نهاية المطاف على شكل مجتمع طبقي. تبدأ هذه المرحلة منذ حوالي 10.000 أو 12.000 سنة تقريبا.

من وجهة النظر التاريخية الواسعة، كان ظهور المجتمع الطبقي ظاهرة ثورية، من حيث أنه حرر شريحة متميزة من السكان -الطبقة الحاكمة- من عبئ العمل اليدوي، وأتاح لها الوقت اللازم لتطوير الفن والعلم والثقافة. إن المجتمع الطبقي، وعلى الرغم من أنه استغلالي وظالم، كان هو الطريق الذي تعين على البشرية أن تقطعه لكي تتمكن من بناء الشروط المادية اللازمة لتشييد مجتمع مستقبلي بدون طبقات.

هذا هو الجنين الذي نمت منه البلدات والمدن (مثل أريحا، التي يرجع تاريخها إلى حوالي 7000 قبل الميلاد)، والكتابة والصناعة وكل الأشياء الأخرى التي أرست الأساس لما نسميه الحضارة. تمثل مرحلة البربرية فترة طويلة للغاية من تاريخ البشرية، وهي منقسمة إلى عدة فترات متميزة إلى حد ما. وتتسم بصفة عامة بالانتقال من أسلوب الانتاج القائم على القنص والالتقاط إلى أسلوب الانتاج القائم على الرعي والزراعة، أي بالانتقال من وحشية العصر الحجري القديم، مرورا ببربرية العصر الحجري الحديث وصولا إلى بربرية العصر البرونزي الأعلى، التي تقف على أعتاب الحضارة.

وقد شكلت نقطة التحول الحاسمة تلك، التي سماها غوردون تشايلد بثورة العصر الحجري الحديث، قفزة كبيرة إلى الأمام في تطوير القدرة الإنتاجية البشرية، وبالتالي الثقافة. وهذا ما قاله تشايلد: «ندين بالكثير لمرحلة البربرية الأولى. إذ أن جميع النباتات الغذائية المزروعة إنما كانت من اكتشاف بعض المجتمعات البربرية المجهولة الاسم»[13].

لقد بدأت الزراعة في الشرق الأوسط منذ حوالي عشرة آلاف عام، وتمثل ثورة في المجتمع البشري والثقافة البشرية. منحت ظروف الإنتاج الجديدة الرجال والنساء مزيدا من الوقت للتفكير التحليلي المعقد. ويتجلى هذا في الفن الجديد الذي يتألف من أنماط هندسية ــ الذي هو أول مثال للفن التجريدي في التاريخ. وأسفرت الظروف الجديدة عن تطور نظرة جديدة للحياة والعلاقات الاجتماعية والعلاقات التي تربط الرجال والنساء بالعالم الطبيعي والكون، اللذين جرى استكشاف أسرارهما بطريقة لم يكن من الممكن تخيلها من قبل. لقد صار فهم الطبيعة ضروريا لأجل متطلبات الزراعة، وتقدم ببطء إلى درجة أن بدأ الرجال والنساء يتعلمون بالفعل كيفية التغلب على قوى الطبيعة المعادية وإخضاعها عمليا، من خلال العمل الجماعي على نطاق واسع.

الثورة الثقافية والدينية تعكس الثورة الاجتماعية الكبرى -التي هي أكبر ثورة في تاريخ البشرية على الإطلاق- والتي أدت إلى حل المشاعية البدائية وظهور الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. ووسائل الإنتاج هي وسائل الحياة نفسها.

شكل إدخال الأدوات الحديدية في مجال الزراعة تقدما كبيرا. لقد مكنت من نمو السكان ونشوء مجتمعات أكبر وأقوى. والأهم من ذلك كله هو أنها أوجدت فائضا أكبر يمكن أن تستولي عليه الأسر الرئيسة في المجتمع. وعلى وجه الخصوص كان استعمال الحديد علامة على تغير نوعي في سيرورة الإنتاج، لأن الحديد أكثر فعالية بكثير من النحاس أو البرونز، سواء في صنع الأدوات أو الأسلحة. لقد كان متوفرا أكثر من المعادن القديمة. عندها وللمرة الأولى صارت الأسلحة والحرب في متناول الجميع. وكان أهم سلاح في ذلك العصر هو السيف الحديدي، الذي ظهر لأول مرة في إنجلترا حوالي 5000 سنة قبل الميلاد، وكان في مقدور أي رجل أن يحصل على سيف حديدي. وهكذا فقدت الحرب طابعها الارستقراطي وأصبحت شأنا عاما.

استعمال الفؤوس الحديدية والمناجل غيّر الزراعة. ويظهر هذا التحول من خلال حقيقة أن فدانا واحدا من الأراضي المزروعة صار قادرا على إطعام ضعف عدد الناس مما كان عليه الحال في الماضي. ومع ذلك فإن المال لم يكن قد ظهر بعد، وظل الاقتصاد معتمدا على المقايضة. فائض الناتج لم يكن يعاد استثماره، إذ لم يكن من الممكن تحقيق ذلك. كان الرئيس وأسرته يستولون على جزء من ذلك الفائض. وقد استُخدم جزء منه في الولائم التي لعبت دورا رئيسيا في تلك المجتمعات.

كان بالإمكان إطعام ما بين 200 و 300 شخص في وليمة واحدة، وقد اكتشف في بقايا إحدى تلك الولائم عظام 12 بقرة وعدد كبير من الأغنام والخنازير والكلاب. لم تكن تلك اللقاءات مناسبة للإفراط في الطعام والشراب فحسب، بل كانت تلعب دورا اجتماعيا ودينيا مهما. من خلال تلك المراسيم كان الناس يشكرون الآلهة على وفرة الطعام، وكانت تسمح بالاختلاط بين العشائر وتسوية الشؤون المجتمعية. كما أن تلك الولائم الفخمة كانت توفر للزعماء الفرصة لإظهار ثرواتهم وسلطتهم ومن تم تعزيز هيبة القبيلة أو العشيرة المعنية.

ومن أماكن الاجتماع هذه نشأ تدريجيا أساس المستوطنات الدائمة والأسواق والبلدات الصغيرة. وازدادت أهمية الملكية الخاصة والثروة إلى جانب زيادة إنتاجية العمل وتنامي الفائض الذي شكل هدفا مغريا للغارات. وبما أن العصر الحديدي كان فترة حروب وعداوات وغارات متواصلة، فإن المستوطنات كانت في كثير من الأحيان محصنة بمنشآت ترابية ضخمة، مثل قصر مايدن في دورست ودانبوري في هامبشير.

كانت نتيجة الحروب عدد كبير من الأسرى، الذين يتم بيع كثير منهم كعبيد، وكان هؤلاء -في الفترة الاخيرة- يباعون كسلع للرومان. يقول الجغرافي سترابو: “يمكن لهؤلاء الناس أن يعطوك عبدا مقابل قارورة خمر”. هكذا بدأ التبادل على هامش هذه المجتمعات. وعن طريق التبادل مع حضارة أكثر تقدما (روما)، بدأت تظهر تدريجيا أولى القطع النقدية التي كانت تصنع على شاكلة النماذج الرومانية.

كانت هيمنة الملكية الخاصة تعني في أول الأمر تركيز الثروة والسلطة في أيدي أقلية. وأحدثت تغييرا جذريا في العلاقات بين الرجال والنساء وذريتهم. بدأت مسألة الميراث تكتسب آنذاك أهمية قصوى. ونتيجة لذلك بدأت تظهر قبور ضخمة. في بريطانيا بدأت هذه القبور تظهر حوالي 3000 قبل الميلاد. وهي تعني استعراضا لسلطة الطبقة أو الفئة الحاكمة. كما أنها تؤكد أيضا حقوق الملكية على أرض محددة. ويمكن رؤية الأمر عينه في حضارات مبكرة أخرى، مثل هنود السهول في أمريكا الشمالية، التي وجدت روايات مفصلة عنها في القرن الثامن عشر.

لدينا هنا أول مثال واضح للاغتراب. حيث اغترب الإنسان عن جوهره بمفهومين أو ثلاثة. فأولا تعني الملكية الخاصة اغتراب منتوجه عنه حيث يستولي عليه شخص آخر. ثانيا صار زمام حياته ومصيره في يد الدولة في شخص الملك أو الفرعون. وأخيرا، لكن ليس آخرا، فإن هذا الاغتراب يستمر من هذه الحياة إلى الحياة الأخرى -فالكائن الداخلي (“الروح”) عند جميع الرجال والنساء تستولي عليه آلهة العالم الآخر، التي يجب الحرص على إرضاءها باستمرار من خلال الصلوات والقرابين. وكما أن الخدمات المقدمة إلى الملك تشكل الأساس لثروة الطبقة العليا من كبار البيروقراطيين والنبلاء، فإن القرابين المقدمة للآلهة تشكل الأساس لثروة وسلطة فئة الكهنة التي تقف بين الناس وبين الآلهة، ومن هنا نشأة الدين المنظم.

ومع نمو الإنتاج والمكاسب الإنتاجية التي تحققت بفضل التقنيات الجديدة التي مكنت من اقتصاد العمل، طرأت تغييرات جديدة على المعتقدات الدينية والعادات. وهنا أيضا الوجود الاجتماعي هو ما يحدد الوعي. فبدلا من عبادة الأسلاف وقبور الحجارة للأفراد وأسرهم، صرنا نرى تعبيرا عن الإيمان أكثر طموحا. ويشهد بناء دوائر حجرية ذات أبعاد مذهلة على حدوث نمو هائل في السكان والإنتاج، والذي تحقق بفضل الاستخدام المنظم للعمل الجماعي على نطاق واسع. وعليه فإن جذور الحضارة تعود تحديدا إلى البربرية، ولا سيما العبودية. تطور البربرية أفضى إلى العبودية، أو ما أسماه ماركس “نمط الإنتاج الآسيوي”.

هوامش

[1] Marx and Engels, Selected Correspondence, pp. 482-3.

[2] ibid., p. 483

[3] Anthony Burnett, The Human Species, p. 142.

[4] Richard Leakey, The Making of Mankind, pp. 101-3

[5] أنثروبولوجي ومؤلف كتاب كونغ سان: الرجال والنساء، والعمل في مجتمع الرحالة للبحث عن الطعام، 1979.

[6] Ibid. p. 103

[7] ibid. p.107

[8] Ibid

[9] Leakey, pp. 106-7.

[10] Leakey, pp. 108-9.

[11] M. F. Ashley Montagu, ed., Marriage: Past and Present: A Debate Between Robert Briffault and Bronislaw Malinowski, Boston: Porter Sargent Publisher, 1956, p. 48.

[12] The Economist, December 31, 1999

[13] G. Childe, What Happened in History, p. 64