لينين الجريح

لينين الجريح: خطاب قدمه تروتسكي في جلسة اللجنة التنفيذية المركزية لجموع الروس, في أيلول- 1918. الخطاب ألقاه تروتسكي 2, أيلول, 1918, في جلسة اللجنة السوفييتية المركزية التنفيذية لعموم الروس. تعرّض لينين لمحاولة اغتيال في 30, آب. كان تروتسكي حينها في الجبهة, ووصلته الأخبار في الأول من أيلول, حين وصله –كما بيّن في مذكراته- برقية من موسكو: "أحضر حالاً. فلاديمير إيليتش أصيب, لا نعرف مدى خطورة الأصابة إلى الآن... سفيردلوف." غادر تروتسكي في الحال, ألقى خطابه يوم وصوله, كما يظهر من التواريخ, أي في اليوم الثالث من محاولة الاغتيال المشؤومة. لم يغادر لينين سرير المرض من 30 آب, إلى 16 أيلول, 1918.

خطابات تروتسكي عن لينين, لها أهمية متزايدة بسبب من موقف لينين منها. بعد موت لينين في 21, يناير, 1924, ن. ك. كروبسكايا (زوجة لينين) أرسلت رسالة إلى تروتسكي. مضمونها:

"عزيزي ليف دافيدوفيتش,

أكتب لأخبرك أنّه, وقبل شهرٍ من وفاته, وبينما ينظر في كتابك, توقّف فلاديمير إيليتش عند الموقع حيث لخّصت ماركس ولينين, وطلب منّي إعادة قراءة النص عليه من جديد, استمع بحرصٍ شديدٍ, ثمّ أعاد الاطّلاع عليه بنفسه من جديد. أريد أن أخبرك شيئاً آخراً: موقف لينين اتجاهك لم يتغيّر منذ أن جئت إلينا في لندن, قادماً من سيبيريا, إلى أن توفّي. أتمنّى لك يا ليف دافيدوفيتش, القوّة والصحّة, وأعانقك بدفء. ن. كروبسكايا.


***

[تعريب: علي عامر- فلسطين]

أيّها الرفاق, بتحيّتكم الأخوية, أشرح الحقيقة, ففي هذه الأيام والساعات الصعبة, جميعنا كأخوة نشعر بعمق بالحاجة إلى وحدةٍ أوثقٍ بين بعضنا ومع منظماتنا السوفييتيّة, وبالحاجة لرصٍّ أشدّ لصفوفنا تحت راية الشيوعية.

في هذه الأيّام والساعات المليئة بالارتياب, حيث يقبع –حامل رايتنا, بل وبتمام الحق, الحامل الأممي لراية البروليتاريا- عليل الجسد في سريره, يقارع أشباح الموْت الشنيعة, نُشَدّ نحن إلى بعضنا البعض بأوثق ممّا نفعل في ساعات النصر.

بلغتني أنباء الإعتداء على لينين, كما بلغت العديد من الرفاق, في سفيازسك على جبهة القازان. عانينا من الضربات هناك, ضربات من اليمين, ضربات من الشمال, ضربات بين العيون. إلّا أنّ هذه الضربة الأخيرة, جاءت من كمينٍ عميقٍ في الخلف. هذه الضربة الغادرة, فتحت جبهةً جديدةً, الجبهة الأشدّ إيلاماً في هذه الأوقات, الأكثر إنذاراً: الجبهة حيث حياة فلاديمير إيليتش تصارع الموت. مهما انتظرتنا الهزائم على هذه الجبهة أو تلك –وأنا مثلكم مقتنع بشدّة بنصرنا الوشيك- لا يوجد هزيمةً جزئيةً واحدةً, ستكون مرهقة وتراجيديّة للطبقة العاملة الروسيّة وللعالم بأسره, كما هي جبهة الصراع المميت في صدر قائدنا.

من أجل أنْ نفهم, لا بد أنْ ندرك الحقد المركّز الذي وجّه ضد هذه الشخصية –وسيستمر- من جميع أعداء الطبقة العاملة. الطبيعة أبدعت تحفةً فريدةً, حين جسّدت في شخصٍ واحدٍ الفكر الثوريّ والطاقة التي لا تلين للطبقة العاملة. هذا الشخص هو فلاديمير إيليتش لينين. معرض قادة البروليتاريا, والمحاربين الثوريين, ثريٌّ ومنوّعٌ, ومثل العديد من الرفاق, الذين انخرطوا في العمل الثوريّ لثلاثة عقود, تسنّى لي أن ألتقي في أراضٍ مختلفة, أنماطاً عديدة من قادة البروليتاريا, والممثلين الثوريين للطبقة العاملة. إلّا أنّه فقط في شخص الرفيق لينين, كان عندنا شخصيّة خُلقت لعهد الحديد والدم هذا.

وراء ظهورنا, يقع عصر التطوّر السلميّ للمجتمع البرجوازيّ, الذي تراكمت فيه التناقضات بالتدريج, في حين عاشت أوروبا ما يسمّى السلام المسلّح, فإنّ أنهار الدم تدفقت في المستعمرات وحدها, حيث عذّب الرأسمال المفترس تلك الشعوب الأكثر تخلّفاً. تمتعّت أوروبا بما يسمّى سلام العسكرة الرأسمالية. هذا العصر نحت وشكّل قادة حركة الطبقة العاملة الأوروبية الأبرز. مثل أوغست بيبيل, تلك الشخصيّة العبقرية, ذلك الفقيد العظيم. الذي عكس عصر التطوّر التدريجي والبطيء للطبقة العاملة. الشجاعة والطاقة الفولاذية, والحذر اللامحدود في كل حركة, والصيرورة الشاقّة للإنجاز على أرض الواقع, واستراتيجيّة "الترّبص والكمون" والتحضير والإعداد الحثيث المتواصل, هذا النسيج الفريد من الصفّات كان خاصّاً به وحده. لقد عكس التراكم الجزيئي التدريجي لقدرات الطبقة العاملة- تطوّرت أفكاره خطوة بخطوة, تماماً كما الطبقة العاملة الألمانية في عصر رد الفعل العالمي, الذي نمى بتدرّج من الأعماق, محرراً نفسه من الظلمات والأحكام المسبقة. شخصيّته الروحية نمت وترعرعتت, وتطوّرت, واكتسبت مزيداً من القوّة, وارتقت في مكانتها –إلّا أنّ كل ذلك حدث على نفس الأرضيّة من "التربص والكمون" والإعداد والتحضير. هكذا كان أوغست بيبيل بأفكاره وطرقه, أكمل شخصيّة في تعبيرها عن عصرٍ أمسى الآن خلف ظهورنا, عصرٍ ينتمي منذ الآن للسرمدية.

أمّا عصرنا, فقد نُسج من خاماتٍ مختلفةٍ. هذا العصر, حيث قاد تراكم التناقضات القديمة إلى انفجارٍ مهولٍ, انفجارٌ مزّق لٌحْمة المجتمع البرجوازي إرباً. في هذا العصر, قوّضت محرقة الشعوب الأوروبية جميع أركان العالم الرأسمالي. إنّه العصر الذي كشف عن جميع التناقضات الطبقية, وصدم جموع الجماهير بحقيقة الواقع المرعب الذي يُهلك الملايين باسم الجشع المحض لمزيدٍ من الأرباح. وإنّه من أجل هذا العصر, نسيَ تاريخ أوروبا الغربية, أو تجاهل, أو فشل في إنتاج وخلق القائد المناسب, وهذا ليس بسبب الصدفة: بل لأنّ جميع القادة في مساء الحرب, منحوا بالطبقة العاملة الأوروبية أعظم الثقة وهي تعكس ماضيها وليس حاضرها.

وبعد أن يزلف العصر الجديد, عصر الاضطرابات الفظيعة, والمعارك الدامية, يذهب إلى ماوراء قدرات القادة السابقين. ما يسعد التاريخ –وليس من قبيل الصدفة- أن يخلق شخصيّةً في قالبٍ فريدٍ في روسيا, شخصيّة تعكس في ذاتها كلّ هذا العصر الشظف والعظيم. أكرر أنّ هذا ليس صدفةً. في عام 1847, ألمانيا المتخلّفة, أنتجت من رحمها شخصيّة كارل ماركس, الأعظم بين المفكرين المغاوير, الذي تنبأ وأشار لمسارات تاريخٍ جديدٍ. حينذاك كانت ألمانيا متخلفة, ولكن إرادة التاريخ اقتضت أنْ تخوض نخبة المثقفين الألمان في ذلك الزمان, غمار تطوّرٍ ثوريٍّ, وأن يعمل أعظم ممثلي تلك النخبة, وقد اغتنى بمجمل معرفتها العلمية, على الفصل مع المجتمع البرجوازي, مموضعاً ذاته في صفّ البروليتاريا الثورية, منتجاً برنامج حركة العمّال ونظرية تطوّر الطبقة العاملة.    

مطلوب من عصرنا هذا, أن ينفّذ نبوءة ماركس في ذلك العصر. ولكن ومن أجل هذه المهمة, فإنّ عصرنا بحاجة لقيادة جديدة, قيادة تحمل روحه العظيمة, فقد ارتقت الطبقة العاملة إلى مستوى مهماتها التاريخية, وأدركت بوضوح تلك الحدود العظيمة التي لا بد من تخطيها, في حال أرادت البشرية أن تحيى لا أن تكون جيفةً عفنةً وسط الطريق السريع للتاريخ. لأجل هذا العصر, خلق التاريخ الروسي قائداً جديداً. أفضل ما في النخبة المثقفة الروسية القديمة, من روح إنكار الذات, والجرأة وكره للاضطهاد, تركّز في ذلك الشخص, الذي في شبابه, طلّق عالم النخبة المثقفة طلاقاً بائناً, بسببٍ من صلاتهم مع البرجوازية, وجسّد في ذاته, معنى ومادة تطوّر الطبقة العاملة. معتمداً على البروليتاريا الثوريّة الشابة في روسيا, موظفاً التجربة الغنيّة لحركة الطبقة العاملة العالمية, محوّلاً اديولوجيّتها إلى رافعة للعمل, هذا الشخص, ارتقى اليوم, محققاً مكانته الكاملة في الميدان السياسي. إنها شخصيّة لينين, أعظم إنسانٍ في عصرنا الثوريّ.

أنا أعلم, وأنتم أيها الرفاق تعلمون أيضاً, أنّ قَدَرَ الطبقة العاملة لا يعتمد حصراً على شخصيّات مفردة؛ إلّا أنّ ذلك لا يعني أنّ الشخصيّات الفردية لا تُحدث أيّ اختلاف في تاريخ حركتنا, وتاريخ تطوّر الطبقة العاملة. فرداً واحداً, لن يتمكّن من قولبة الطبقة العاملة على صورته هو, أو على شاكلته, كما ليس بمقدوره أن يعظ البروليتاريا اعتباطاً بهذا المسار أو ذاك من مسارات التطوّر, إلّا أنّه يستطيع المساعدة في تحقيق مهمّات العمّال, وبقيادته لهم, يسرّع إنجاز الأهداف. النقد الذي وجّه لماركس في أنّه تنبأ بثورةٍ قريبةٍ أكثر من اللازم, ما ثبت خطأه في مسار التاريخ. تمّت الإجابة عليه على وجهٍ من الحق الكامل, بأنّه على قدر ما كان ماركس معتلياً القمّة السامية, ظهرت المسافات أقصر من عنده.

العديد, بما فيهم أنا, نقدنا فلاديمير إيليتش أيضاً, في أكثر من موضع, لكونه على ما بدا حينها, فشل في الأخذ بعين الاعتبار العديد من الأسابب الثانوية, والظروف الطارئة. يجب أن أقول هنا: أنّ هذا يعتبر عيباً في قائدٍ سياسيٍّ لعصر التطوّر المتدرج "العادي"؛ إلّا أنّها الميّزة الأعظم للرفيق لينين كقائدٍ للعصر الجديد, حيث كل ما هو, طارئ, مصطنع, وثانوي يتهاوى ويتراجع إلى الخلف, مخلياً المكان فقط للتناقض الطبقي الأساسي والجوهري, على شكل حربٍ أهليةٍ مخيفةٍ. إرساء أسس النظرة الثورية للمستقبل, إدراك وتحديد, الضرورات الأكثر أهميّة وجوهرية وإلحاحاً, تلك كانت موهبة لينين في أعلى مستوياتها. أولئك –ومنهم أنا- الذين حظوا بهبة مشاهدة فلاديمير إيليتش في العمل, مشاهدة نشاط دماغه عن كثب, لم يتوانوا عن إعلاء هذه الموهبة, بكل انفتاحٍ وحماسٍ مباشرين –أكرر, بحماس- هذا العقل الفذ والثاقب, الذي رفض كل ماهو خارجي, وعرضي, ومصطنع, في خضم ترسيم طرق وطرائق العمل الرئيسية. تتعلّم الطبقة العاملة, أن تقدّر, فقط أولئك القادة, الذين يتبعوا مسارات التطوّر حال تكشفها, دون أدنى تردد, حتى حين تكون الأفكار المسبقة للبوليتاريا نفسها عقبة مؤقتة على هذا المسار. بالإضافة لهبة العقل الجبّار, فقد امتلك لينين إرادةً فولاذيّةً. ومركب هاتين الصفتين, ينتج عنه القائد الثوريّ الحقيقيّ, والذي هو مزيجٌ من الشجاعة, والعقل الراسخ, والإرادة الفولاذيّة التي لا تلين.

من حسن الحظ, أنّ كل ما نقوله, ونسمعه, ونقرأه, فيم يتعلّق بلينين, ليس أبداً في سبيل النعي. بل نقترب كثيراً, من الاقتناع, أنّه على هذه الجبهة القريبة, هنا في الكرملين, الحياة ستنتصر, وسيعود فلاديمير إيليتش قريباً إلى صفوفنا.

لقد ذكرت أيّها الرفاق, أنّه عقل الطبقة العاملة الشجاع وإرادتها الثوريّة. ينبغي أن نشيير, إلى هذا الرمز العميق, الذي يبدو ناتجاً عن تصميم وعي التاريخ, حيث في هذه الساعات الحالكة, وإذ تحارب الطبقة العاملة الروسية على الجبهة الخارجية وبكل قوّة, ضد التشيكوسلوفاك, والحرّاس البيض, ومرتزقة إنجلترا وفرنسا, فإنّ قائدنا يحارب الجروح التي أصابته على يد عملاء نفس الحرّاس البيض, والتشيكوسلوفاك, ومرتزقة إنجلترا وفرنسا. هنا تكمن صلة داخلية ورمزية تاريخية عميقة! كما نؤمن جميعنا, أنّ معاركنا على الجبهة ضد التشيكوسلوفاك, والأنجلو-فرنسيين, والحرّاس البيض, لا تزيدنا إلّا قوّةً في كل يوم وفي كل ساعة, بإمكاني القول –كشاهد عيان عائد لتوّه من جبهات الحرب- نعم, نحن نكتسب مزيداً من القوّة في كل يوم, سنكون غداً أقوى مما نحن عليه اليوم, وبعد الغد أقوى مما سنكون عليه غداً؛ لا يخالجني أيّ شك, أنّ اليوم الذي سنعلن فيه عودة المدن المحتلة (القازان, سينبيرسك, سمارا, أوفا, وغيرها) إلى حضن العائلة السوفييتية ليس باليوم البعيد, وبنفس الروح تماماً, نتأمّل أن يكون تعافي الرفيق لينين سريعاً.

إلّا أنّه ورغم كل شيء, مازالت صورته, الصورة الملهمة للقائد الجريح, الذي غادر الجبهة لحين, تمثل أمامنا بكل وضوح. نحن نعلم بكل يقين, أنّه لم يغادر صفوفنا ولو لحظة واحدة, حتّى حين طوّحت بجسده رصاصات الغدر, مازال يحثّنا جميعاً, ينادينا جميعاً, ويقودنا للأمام. لم أرَ رفيقاً واحداً, أو عاملاً مخلصاً واحداً, تقاعص تحت تأثير أخبار الاعتداء الخائن على لينين, إلّا أنّي رأيت العشرات, يشدون قبضاتهم, وتسعى أكفّهم خلف بنادقهم؛ سمعت مئات وآلاف الشفاه تقسم على أن تنتقم بدون رحمة من الأعداء الطبقيين للبروليتاريا. يجب أن نخبركم بصعوبة, كيف كان رد فعل المحاربين الواعيين طبقياً على الجبهة, حين علموا أنّ لينين يستلقي وفي جسده رصاصتان. لا يمكن لأحد أنْ يدعي على شخصية لينين افتقارها للمعدن؛ إلّا أنّ المعدن الآن, ليس مصبوباً في روحه فقط, بل ويكمن في جسده أيضاً, وبذلك أصبح أعزّ على قلوب الطبقة العاملة الروسية.

لا أعرف إن كان لكلماتنا وخفقات قلوبنا أن تصل لينين في سريره, ولكني متيّقن من شعوره بها. بدون شك, لينين يعرف وهو في عزّ مرضه, كيف تنبض قلوبنا أيضاً بقياسٍ مضاعف ضعفين أو ثلاث. الجميع يدرك الآن, بشكلٍ أوضح على الإطلاق مما سبق, أننا جميعاً أعضاء في عائلةٍ سوفييتيةٍ واحدةٍ. لم تبدُ حياةُ أيٍّ منّا, ثانوية أو دون الثانوية, كما تبدو الآن, في هذه اللحظة, حيث يداهم خطر الموت, حياة أعظم رجلٍ في زماننا. بإمكان أيّ أحمق أنْ يطلق رصاصةً في رأس لينين, ولكنّ خلق هذا الرأس من جديد, مهمة عتيّة حتى على الطبيعة نفسها.

لكن لا, سينهض قريباً من جديد, ليفكر وليبدع, ليحارب معنا كتفاً بكتف. في المقابل, نعد قائدنا المحبوب, بأنّه طالما هناك قوّة عقلية متبقيّة في رؤوسنا, طالما يجري الدم في عروقنا, سنبقى أوفياء لراية الثورة الشيوعية. سنحارب ضد أعداء الطبقة العاملة لآخر قطرة من دمائنا, حتى آخر نفس.