البلشفية طريق الثورة الفصل الرابع: النهوض حروب البلقان

لطالما كانت المسألة القومية حقل ألغام غادر، لأن مطلب التحرر الوطني وتقرير المصير ليس مسالة بسيطة، إذ يمكن أن تكمن القوى والمصالح الأكثر رجعية وراء ما قد يبدو للوهلة الأولى مطلبا تقدميا. لهذا أكد لينين على أن مطلب تقرير المصير لا يكون بدون قيد أو شرط، بل يجب إخضاعه لمصالح البروليتاريا والثورة العالمية. ليس الماركسيون ملزمين بدعمه في كل الأحوال والظروف، كما يظن البعض. لقد سبق لماركس أن أشار منذ زمن بعيد إلى الدور الرجعي الذي لعبته "الأمم الصغيرة" التي تحولت إلى أدوات في أيدي القوى الإمبريالية الكبرى. لقد انتقد بشكل خاص النزعة السلافية، التي استغلتها روسيا القيصرية من أجل الظهور بمظهر "محررة" السلاف، واستخدمت هذا الموقف للحصول على موطئ قدم في البلقان. وعلى خطى ماركس، تميز موقف لينين تجاه المسألة القومية بإصراره الدائم على الموقف الطبقي. لقد حذر باستمرار من خطر السموم القومية وكتب بسخرية عن شعار "الحرية" الذي كانت البرجوازية تسعى لاستغلاله من أجل إخفاء مؤامراتها الرجعية وخداع الشعب.

[Source]

كثيرا ما استخدم لينين في كتاباته عن المسألة القومية قبل عام 1914 مثال الطريقة التي انفصلت بها النرويج عن السويد في عام 1905. كان ذلك مثالا بسيطا جدا، وربما لهذا السبب اختاره لينين. لكن لسوء الحظ لا تكون المسألة القومية بهذه البساطة دائما. إن الموقف الذي يمكن للماركسيين اتخاذه من حق تقرير المصير، من حيث الدفاع عنه أو معارضته، مرتبط بالظروف الملموسة في كل حالة على حدة.

كتب لينين قائلا:

«إن الشرط الضروري الذي تفرضه النظرية الماركسية أثناء تحليل أي مسألة اجتماعية هو أن يتم دراستها ضمن حدود تاريخية معينة؛ وإذا كانت تلك المسألة تتعلق ببلد معين (بالبرنامج القومي لبلد معين على سبيل المثال)، يجب أن تأخذ بعين الاعتبار الخصائص الملموسة التي تميز هذا البلد عن سواه في نفس الحقبة التاريخية.»

وأضاف:

«لا يمكن للماركسيين في أي بلد أن يضعوا برنامجهم القومي دون أن يأخذوا بالاعتبار جميع هذه الظروف التاريخية العامة وجميع الأوضاع الملموسة لهذه الدولة».[1]

يمكن للمرء أن يعتقد أن هذا واضح. لكن وكما يقول المثل: "القليل من المعرفة شيء خطير" لسوء الحظ. ألقى بعض ممن يعتبرون أنفسهم لينينيين نظرة خاطفة على كتابات لينين ولمحوا جملة "الحق في تقرير المصير" فاستخلصوا أنه من الضروري دائما ومهما كانت الظروف دعم كل مطالب الاستقلال. فإذا بكل ما شرحه لينين بكل حرص يتحول إلى ما يشبه التشنج العصبي الذي يدفع هؤلاء الذين يعانون منه إلى القفز كلما نفخت إحدى المجموعات القومية في البوق. إن المرء يتساءل حقا لماذا كلف لينين نفسه كل تلك المجهودات لكتابة كل تلك المجلدات، في حين يبدو بوضوح أن أولئك الذين يتحدثون ويتصرفون باسمه لم يفهموا ولو سطرا واحدا مما كتبه!

وفي ضوء التطورات الأخيرة التي تعرفها منطقة البلقان، بعد تفكك يوغوسلافيا، من المفيد التذكير بالموقف الذي كان لينين قد اتخذه خلال حروب البلقان. هل قفز على الفور للدفاع عن هذا البلد أو ذاك من البلدان المتحاربة؟ كلا، على العكس تماما. لقد أدان حروب البلقان لأن جميع الأطراف كانت رجعية. ليس من الممكن أن تدعم الطبقة العاملة أيا من الأطراف المتحاربة، على الرغم من أنها جميعا (بطبيعة الحال) تحتج بصوت عال بأنها كانت ضحية للعدوان وأن "حقها في تقرير المصير" قد انتهك.

كتب لينين عن نزاع البلقان: «لم يسبق أبدا ولا في أي مكان أن حصلت شعوب مضطهَدة على"الحرية" عن طريق شن الحرب ضد شعب آخر... لا يمكن تحقيق الحرية الحقيقية للفلاحين السلاف في البلقان، وكذلك للفلاحين الأتراك إلا من خلال الحرية الكاملة داخل كل بلد...».[2]

هذا هو لينين الحقيقي. هذا هو صوت موقفه الأممي الطبقي الثوري الحازم. كم يتناقض هذا مع الديماغوجيا الشوفينية المشينة لقادة الأحزاب الشيوعية السابقة، مثل زيوغانوف اليوم الذي رمى بلينين في البحر وصار يردد الدعاية السلافية المقرفة التي طالما احتقرها ماركس ولينين.

في الفترة التي تلت الثورة الروسية الأولى، كانت هناك غيوم عاصفة تتجمع فوق أوروبا، التي سرعان ما تلقت درسا في أهمية المسألة القومية. وفي حين كانت الأحداث في روسيا تتجه نحو انقسام نهائي بين قوى الماركسية الثورية والقوى الإصلاحية، فإنه على الصعيد الدولي كان هناك إطلاق العنان لقوى أخرى. كانت التناقضات بين مختلف المجموعات المتنافسة من القوى الإمبريالية - ألمانيا ، النمسا ، المجر ، بريطانيا ، فرنسا ، وروسيا - بدأت تثير شبح الحرب على نطاق أكثر اتساعا وأكثر رعبا مما كان عليه الأمر في الماضي. في المؤتمر الأممي الثاني ، الذي انعقد في كوبنهاغن، من 15 إلى 25 غشت 1910 ، والذي كان الحزب الروسي ممثلا فيه بلينين وبليخانوف، احتل النضال ضد النزعة العسكرية ومسألة الحرب مكانة مركزية في المناقشات. وكان لينين قد أدرج منذ مؤتمر شتوتغارت (غشت 1907) عددا من التعديلات على قرار بخصوص الحرب، حيث أكد على ضرورة الاستفادة من الأزمة الاقتصادية والسياسية، في حالة اندلاع الحرب، لإسقاط الرأسمالية.

وصلت التناقضات الحادة بين القوى العظمى إلى نقطة الانفجار في البلقان في غشت 1914. لكن حتى قبل ذلك كانت خطوط الصدع قد ظهرت واضحة في حروب البلقان. لقد تسببت حروب شعوب البلقان من أجل التحرر من الحكم التركي في تسريع الانحطاط البطيء والمؤلم للإمبراطورية العثمانية. وبعد سلسلة من الحروب تمكنت كل من اليونان وصربيا وبلغاريا من تحقيق حريتها، لكنها تحولت إلى بيادق في يد مختلف القوى الأوروبية (بريطانيا وروسيا والنمسا وبروسيا) وأوراق لعب للدبلوماسية الإمبريالية. كانت فرنسا تضغط على روسيا لاتخاذ موقف أكثر صرامة في البلقان ضد النمسا- المجر التي قامت فجأة، في خريف عام 1908 ، بتوسيع مستعمراتها في البلقان بضم البوسنة والهرسك، الشيء الذي شكل استفزازا واضحا لحكومة سان بيترسبورغ. لكن روسيا القيصرية كانت بدورها تلعب دور المفترس في هذه اللعبة الشرسة من أجل توسيع النفوذ السياسي. إذ استمر هدفها الرئيسي طيلة عقود هو دعم بلغاريا وصربيا ضد تركيا، تحت راية النزعة السلافية المنافقة، من أجل السيطرة ليس فقط على البلقان، بل وعلى تركيا نفسها. استمر الهدف المركزي لسياستها هو الاستيلاء على القسطنطينية ، وبالتالي الحصول على منفذ إلى المياه الدافئة وممر نحو البحر الأبيض المتوسط. كان هذا هو الهدف الحقيقي وراء تأسيس "اتحاد الممالك الأربع" ضد تركيا.

كما كشفت الضجة التي تلت ضم النمسا للبوسنة عن الطموحات الإمبريالية للبراليين البرجوازيين الروس، الذين طالبوا بأن تتدخل روسيا في البلقان. أدان زعيم الكاديت اليميني، غوتشكوف، قرار الحكومة بعدم الدخول في الحرب بسبب البوسنة باعتباره خيانة للسلاف. قال إن الحكومة الروسية أبانت عن "الكسل والترهل"، في حين أن الشعب الروسي على استعداد لخوض "الحرب الحتمية مع الأعراق الجرمانية". وراء هذا العداء كانت تكمن الحسابات السياسية الباردة للبرجوازية الروسية التي كانت تتطلع إلى الأرباح التجارية الكبيرة من وراء الاستيلاء على القسطنطينية والسيطرة على البحر الأسود وطرق التجارة عبر المضائق. ندد ستروفه بالمسألة البوسنية باعتبارها "عارا قوميا"، وأكد أن قدر روسيا هو إيصال حضارتها إلى "كامل حوض البحر الأسود". وقال رئيس مجلس الدوما، ميخائيل رودزيانكو، للقيصر، في مارس 1913: «يجب أن تصير المضايق ملكا لنا. سيتم الترحيب بالحرب بفرح وستزيد من هيبة الحكومة»[3]. كان هناك أيضا عمل غير منته في البلقان، حيث أن جزءا كبيرا من أراضي البلقان (مقدونيا) استمرت تحت الحكم التركي. في 26 شتنبر 1912 اندلعت حرب البلقان الأولى. حيث اتحدت مونتينيغرو وصربيا وبلغاريا واليونان (اتحاد الممالك الأربع) ضد تركيا. من الناحية الرسمية كانت تلك حرب تحرر وطني لشعوب البلقان ضد الأتراك المضطهِدين، لكن وراء الشعارات التي طالبت بشكل ديماغوجي بالحرية وتقرير المصير، كانت هناك الطموحات التوسعية لمختلف البرجوازيات القومية، والتي كانت تقف وراء كل منها هذه أو تلك من القوى الكبرى، العازمة على شن الحرب بالوكالة ضد منافسيها. كانت كل من فرنسا وألمانيا وبريطانيا والنمسا - المجر كلها تراقب الموقف في البلقان بمزيج من الجشع والخوف والقلق.

تعرضت الإمبراطورية العثمانية المتهالكة للهزيمة في حرب البلقان الأولى. في النهاية تم التخلص من نير تركيا، لكن سرعان ما استُبدل بنير الملاكين العقاريين والرأسماليين "الوطنيين" الصرب واليونانيين والبلغاريين. وعلاوة على ذلك بدأ هؤلاء في الصراع فيما بينهم حول غنائم النصر مثلما تتصارع الكلاب المسعورة على قطعة عظم. توصل مؤتمر لندن، في ربيع عام 1913، أخيرا إلى تحقيق "السلام" في البلقان، بعد حرب البلقان الأولى، لكن ذلك لم يضمن عدم اندلاع حرب جديدة أكثر وحشية، حرب سوف تجر إلى أتونها في النهاية ليس بلدان البلقان وحدها، بل العالم بأسره. صادق مؤتمر لندن على حق القوى العظمى في التدخل في البلقان. كان ذلك التدخل واقعا ملموسا على أي حال، إذ وراء كل طغمة حاكمة في أنظمة البلقان "المستقلة" كانت تقف هذه أو تلك من القوى الأوروبية الكبرى. وكانت كل واحدة من هذه القوى متحدة في أحد الحلفين الكبيرين: الحلف الثلاثي الذي تقوده ألمانيا، و"الوفاق" بقيادة بريطانيا. كانت لدى النمسا- المجر وألمانيا أيضا، مثلهما مثل روسيا، طموحات في البلقان والتي يمكن تلخيصها في السؤال التالي: مَن مِن حقه أن يرث الإمبراطورية العثمانية؟ أما الأنظمة الوطنية المختلفة في البلقان فقد كانوا في الحقيقة مجرد عملاء للدول الإمبريالية.

سرعان ما اتضح الدور الرجعي للبرجوازيات القومية في البلقان في نزعتها التوسعية المشؤومة، كما ظهر في سياسة "بلغاريا العظمى"، "صربيا العظمى"، "اليونان العظمى"، والذي لم يكن يعكس سوى جشع الملاكين العقاريين والرأسماليين، الذين كانوا يتآمرون مع القوى العظمى لتدمير كل شعوب البلقان. اندلعت الحرب الجديدة في 06 يونيو 1913 ، عندما هاجمت بلغاريا كلا من اليونان وصربيا. ثم انضمت رومانيا التي استشعرت إمكانية تحقيق غنائم سهلة. كما هاجمت تركيا بلغاريا التي عانت من هزيمة فادحة وفقدت الكثير من الأراضي. يدل هذا على مدى فراغ مفهوم الاضطهاد "الاستعماري" عندما ينظر إليه نظرة صورية وغير ديالكتيكية. إن القوميات التي كانت مستعمَرة ومقموعة سابقا يمكنها أن تتحول إلى عكس ذلك. يمكن القول بأن الحرب ضد تركيا كان لها جانب تقدمي إلى حد ما، عندما كانت (نظريا على الأقل) تخاض من أجل تحرير المقدونيين من نير الأتراك، على الرغم من أن مختلف دول البلقان كانت من الناحية العملية تسعى بالفعل إلى التوسع على حساب جيرانها. لكن حرب البلقان الثانية كانت ذات طابع رجعي وإمبريالي واضح ، حيث حاربت العصابات الحاكمة اليونانية والبلغارية والصربية والرومانية بعضها البعض لتقسيم الغنائم.

لم تكن هناك ذرة من المحتوى التقدمي في أي من تلك المواجهات. كما لا يمكن رفع مطلب حق تقرير المصير لحل المأزق الدموي الذي أصاب البلقان في ذلك الوقت واستمر منذ ذلك الحين. إن السبيل الوحيد للخروج من المأزق الدامي في البلقان هو انتصار الثورة بقيادة الطبقة العاملة لبناء فدرالية بلقانية ديمقراطية. كان هذا هو موقف لينين وأيضا موقف كل الاشتراكيين والديمقراطيين في البلقان ، ولا سيما أعظمهم: كريستيان راكوفسكي. كانت تلك الحروب "الوطنية"، كما أوضح لينين ، أكثر كلفة من حيث الخسائر البشرية مما كانت ستكلفه الثورة. فبدون ثورة بقيادة الطبقة العاملة بتحالف مع الفلاحين الفقراء لم يكن هناك أي حل ممكن في البلقان. لقد شرح تروتسكي البرنامج الحقيقي الذي دافع عنه الماركسيون في ما يخص المسألة البلقانية في مقاله: "المسألة البلقانية والاشتراكية الديمقراطية"، الذي ظهر في البرافدا في 01 غشت 1910، حيث قال:

«إن السبيل الوحيد للخروج من الفوضى القومية والارتباك الدموي في البلقان هو اتحاد جميع شعوب شبه الجزيرة في كيان اقتصادي وسياسي واحد، على أساس الحكم الذاتي لجميع المكونات. فقط في إطار دولة بلقانية واحدة سيمكن لصرب مقدونيا والسنجاك وصربيا ومونتينيغرو أن يتحدوا في جماعة ثقافية قومية واحدة، ويتمتعوا في نفس الوقت بمزايا السوق المشتركة البلقانية. وحدهم شعوب البلقان المتحدون من يمكنهم أن يتصدوا فعلا للأطماع الوقحة للنظام القيصري والإمبريالية الأوروبية».[4]

وقد عبر لينين عن نفس الموقف في مقالته: حرب البلقان والشوفينية البرجوازية، حيث قال:

«كان في مقدور شعوب البلقان أن تنجز هذه المهمة بشكل أكثر سهولة مما هو عليه الحال الآن، وبكمّ أقل من التضحيات من خلال تشكيل جمهورية بلقانية فدرالية. سيصير الاضطهاد القومي والمشاحنات القومية والتحريض على أساس الاختلافات الدينية أشياء مستحيلة في ظل الديمقراطية الكاملة والمتسقة. كان من الممكن أن تضمن شعوب البلقان تنمية سريعة ومكثفة وحرة».[5]

لقد نظر تروتسكي، مثله مثل لينين، إلى المسألة البلقانية ليس على أساس قومي بل على أساس طبقي، حيث كتب:

«إن الضمانة التاريخية لاستقلال البلقان وحرية روسيا توجد في التعاون الثوري بين عمال بيترسبورغ ووارسو وعمال بلغراد وصوفيا».[6]

ما تزال هذه الأفكار صحيحة حتى اليوم ، باستثناء أنه يجب استبدال شعار الفدرالية الديمقراطية بشعار الفدرالية الاشتراكية الديمقراطية لشعوب البلقان باعتبارها الحل الوحيد للتغلب على إرث البلقنة الفظيع الذي لم تتمكن لا الرأسمالية ولا الستالينية من القضاء عليه.

هوامش:

1: Lenin : LCW, The Right of Nations to Self-Determination, vol. 20, 400–401.

2: Lenin, Collected Works, (بالروسية), vol. 22, 151–52.

3: O. Figes, A People’s Tragedy, 247 and 248.

4: Trotsky, The Balkan Wars 1912–13, 39–40.

5: LCW, The Balkan War and Bourgeois Chauvinism, vol. 19, 39.

6: Trotsky, The Balkan Wars 1912–13, 41–42.