منظورات عالمية: 2018 عام الأزمة الرأسمالية

نقدم فيما يلي، المنظورات العالمية لعام 2018، والتي تمثل تحليلنا، نحن التيار الماركسي الأممي، للوضع العالمي الحالي، وتوقعاتنا لاتجاهات تطوره. ستتم مناقشة هذه الوثيقة ووضعها في صيغتها النهائية خلال المؤتمر العالمي للتيار الماركسي الأممي، الذي سينعقد في صيف هذا العام في مدينة تورينو الإيطالية. كانت المسودة قد كتبت في الأشهر القليلة الأولى من هذا العام، وعلى الرغم من أن بعض الأحداث التي تم وصفها قد تطورت منذ ذلك الحين، فإن تلك التطورات لا تعمل سوى على تأكيد دقة تحليلنا العام للوضع العالمي.

[Source]

لقد مرت عشر سنوات منذ الانهيار المالي في عام 2008. كانت تلك واحدة من اللحظات الحاسمة في تاريخ العالم، التي تمثل تغييرا جوهريا في الوضع، مثل سنوات 1914 و1917 و1929 و1939- 1945. ومن ثم فإن هذه اللحظة مناسبة للقيام بتقييم للعقد الماضي.

كانت تلك الأزمة مختلفة اختلافا نوعيا عن أي أزمة أخرى في الماضي. لم تكن أزمة دورية عادية، بل انعكاسا للأزمة البنيوية للرأسمالية. وبعد مرور عقد على انهيار عام 2008، ما زالت البرجوازية تناضل لتخليص نفسها من الأزمة التي دمرت توازن النظام الرأسمالي. وليس الانتعاش الحالي، إن صح الحديث أصلا عن أي انتعاش، إلا انتعاشا هزيلا جدا. إنه، في الواقع، أضعف انتعاش اقتصادي في تاريخ الرأسمالية، فحتى في ثلاثينيات القرن العشرين كان هناك انتعاش أكبر. وهو الواقع الذي تترتب عنه أشياء معينة.

توقعنا قبل عشر سنوات أن جميع محاولات البرجوازية لاستعادة التوازن الاقتصادي ستدمر التوازن السياسي والاجتماعي. وقد تأكد ذلك الآن من خلال الأحداث التي نشهدها على المستوى العالمي. في جميع البلدان، الواحد منها تلو الآخر، أدت محاولات الحكومات فرض التقشف، في محاولة يائسة لتحريك الاقتصاد (وهو ما فشلوا في تحقيقه)، إلى اندلاع انفجارات اجتماعية ذات طابع غير مسبوق.

قال لينين إن السياسة هي تكثيف للاقتصاد. وليست كل هذه الأزمات، في آخر المطاف، سوى تعبير عن مأزق الرأسمالية التي لم تعد قادرة على تطوير القوى الإنتاجية كما في الماضي.

هذا لا يعني، بالطبع، أنه لا يمكن أن يكون هناك أي تطور للقوى الإنتاجية. لم يقل لا ماركس ولا لينين ولا تروتسكي أبدا إن هناك سقفا مطلقا لتطور القوى الإنتاجية في ظل الرأسمالية. إنها ظاهرة نسبية وليست مطلقة. ستكون هناك دائما إمكانية لبعض التطور، كما شهدنا في الصين خلال الفترة الماضية. لكن على الصعيد العالمي لا يوجد أي شيء مشابه لتطور القوى المنتجة الذي تحقق في النصف الثاني من القرن العشرين، بعد الحرب العالمية الثانية.

تشرح الماركسية أن سر صلاحية أي نظام اقتصادي هو قدرته على تحقيق أقصى قدر من الاقتصاد في وقت العمل. لقد كان أحد أهم عناصر تطور الرأسمالية هو بالضبط نمو إنتاجية العمل. فعلى مدار 200 عام الماضية رفعت الرأسمالية إنتاجية قوة العمل البشري إلى مستويات لم يكن من الممكن تخيلها في الماضي. لكن هذا التقدم يصل الآن إلى حدوده.

وجدت دراسة عن الإنتاجية، قام بها مركز الأبحاث الاقتصادية والسياسية، في شتنبر 2015 أنه بين عامي 2007 و2012، نمت الإنتاجية العالمية بمعدل سنوي قدره 0,5%، أي نصف ما كان عليه الحال في الفترة ما بين 1996 و2006. لكن في الفترة الأخيرة الممتدة من عام 2012 إلى 2014، توقف بشكل كامل عند نقطة صفر في المائة. كما أن النمو في بلدان مثل البرازيل والمكسيك كان سلبيا في الواقع. ويقول التقرير إن: «هذه واحدة من أكثر الظواهر إثارة للقلق والتي تؤثر، بدون شك، على الاقتصاد العالمي.»

هذه الأرقام إشارة مؤكدة إلى أن الرأسمالية تغرق الآن في خضم أزمة دائمة. إن النمو البطيء في إنتاجية العمل (بل وتراجعه في بعض الحالات) مظهر لافت للنظر لأزمة الرأسمالية، التي لم تعد قادرة على تحقيق النجاحات الكبيرة التي كانت تحققها في الماضي.

يكمن جوهر المشكلة في مستويات الاستثمار المنخفضة تاريخيا: حيث انخفض إجمالي تكوين الرأسمال في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة إلى أقل من 20% من الناتج المحلي الإجمالي وذلك للمرة الأولى منذ الستينيات، في حين أن استهلاك رأس المال وانخفاض قيمته آخذان في التفاقم. في العالم الاستعماري السابق، أثارت الطفرة في أسعار المواد الخام زيادة سريعة في الاستثمار، لكنها تراجعت مرة أخرى على مدى السنوات القليلة الماضية.

تراجع الاستثمار في الإنتاج هذا ليس نتيجة لنقص المال، بل على العكس فإن الشركات العملاقة تسبح في الأموال. صرح آدم دافيدسون، في صحيفة نيويورك تايمز في يناير 2016، أن «الشركات الأمريكية تمتلك حاليا 1,9 تريليون دولار من الأموال الخاملة»... وهي الحالة التي «لم يسبق لها مثيل في التاريخ الاقتصادي...». يعتبر مؤلف المقالة هذه المسألة "لغزا"، لكن ما تظهره هو أن الرأسماليين لا يمتلكون حقول استثمار مربحة في ظل الحالة الراهنة للاقتصاد العالمي .

وتحدد أحدث البيانات الصادرة عن الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي أن حجم الأصول السائلة "للشركات غير المالية"، والتي تشمل العملة الصعبة والودائع الأجنبية وأسهم الصناديق المشتركة، سجلت "سعرا قياسيا يبلغ 2,4 تريليون دولار في الربع الثالث" من عام 2017.

إن النظام يغرق بشكل حرفي في بحر من الثروات. ومثل ذلك الساحر الذي استحضر قوى لا يستطيع السيطرة عليها، تمتلك القوى المنتجة القدرة على إنتاج كميات من السلع لا يمكن أن للأسواق امتصاصها.

إن هذا العجز عن توظيف تلك الكميات الضخمة من فائض القيمة المستخرجة من عرق ودم العمال، هو دليل الإدانة النهائية للرأسمالية. وينعكس فائض الإنتاج على شكل أزمة عامة للاقتصاد العالمي الذي هو في حالة هشة للغاية. لم تعد القروض الرخيصة تساعد على تحفيز الاستثمار، إذ ما الفائدة من الاستثمار لخلق قوى منتجة جديدة في حين لا توجد أسواق لتصريف الإنتاج الحالي؟

في كل يوم تعلن الصحافة عن وجود انتعاش. لكن ما يوجد، في أفضل الأحوال، هو ارتفاع طفيف في الناتج المحلي الإجمالي في سياق عام للركود على المدى الطويل. بالنسبة للماركسيين ليست هناك مفاجأة في هذا؛ فحتى خلال فترات التراجع يستمر النظام في التحرك في دورات، وبعد فترة طويلة من التراجع أو الركود، يصير من المتوقع حدوث انتعاش صغير. ومع ذلك فإنه ضعيف لدرجة أنه لا يعتبر انتعاشا ولا يمكنه أن يستمر.

يأتي هذا النمو المحدود على خلفية سياسة نقدية متساهلة للغاية. فقد أبقى الاحتياطي الفدرالي معدل الفائدة عند مستوى يقارب الصفر من خريف عام 2008 حتى بداية عام 2017. كما خفض البنك المركزي الأوروبي بدوره سعر الفائدة إلى ما فوق الصفر بقليل.

توجد فقاعات عقارية في أسواق الإسكان في بريطانيا وكندا والصين والبلدان الاسكندنافية. أسواق الأوراق المالية لم تسترد فقط انتعاشها بل تجاوزت معدلات عام 2007. وقد نجح مؤشر داو جونز ليس فقط في الارتفاع، بل زاد من قيمته بنسبة 36%. ووصلت نسبة السعر إلى الأرباح (أي السعر الذي يدفعه المستثمر مقابل كل دولار من أرباح الشركة أو مداخيلها) إلى ثالث أعلى مستوى لها في التاريخ (المرتان السابقتان في 1929 و2000). إلا أن كل هذا ليس مؤشرا على انتعاش صحي، بل عن أزمة أخرى في طريقها نحو السطح. كما أنها تؤدي إلى تحويل مبالغ ضخمة من المال إلى أرصدة الطبقة الرأسمالية، التي زادت قيمة أصولها مع تدفق القروض الجديدة.

يرجع السبب وراء المأزق الحالي إلى أن الرأسمالية، خلال العقود التي سبقت عام 2008، لم تكن قد وصلت إلى حدودها "الطبيعية" فقط، بل كانت قد تجاوزتها. إن الاتساع غير المسبوق للقروض والائتمان هو من جهة ما مّكن الرأسمالية من التغلب على الحدود التي يفرضها السوق وفائض الإنتاج، ومن جهة أخرى كان هناك التوسع الهائل في التجارة العالمية وتكثيف التقسيم الدولي للعمل.

سبق لماركس أن أوضح أن إحدى الطرق التي تلتف بها الرأسمالية حول حدود السوق وميل معدل الربح إلى الانخفاض هي التوسع الهائل للقروض وتزايد التجارة العالمية ("العولمة")، الشيء الذي مكنها جزئيا ولفترة محدودة (عقود قليلة) من التغلب على التناقض الرئيسي الآخر الذي هو: قيود الدولة القومية. لكن كلا هذين الحلين لهما تأثيرات محدودة وقد انقلبا الآن إلى عكسهما.

تاريخيا كان للولايات المتحدة مجموع قيمة ديون (حكومية وخاصة) تبلغ ما بين 100 و180% من الناتج المحلي الإجمالي. لكن في أواخر الثمانينيات بلغ الدين الإجمالي 200%، واستمر في النمو حتى عام 2009، حين بلغ حوالي 300%. كما أن لكل من اليابان وبريطانيا وإسبانيا وفرنسا وإيطاليا وكوريا الجنوبية مستويات ديون تزيد عن 300% من الناتج المحلي الإجمالي. ويبلغ الدين العالمي الآن 217 تريليون دولار أمريكي أي 327% من الناتج العالمي الإجمالي، وهو المعدل الأعلى في التاريخ.

سبق لماركس أن أشار في البيان الشيوعي إلى أن البرجوازية لا تحل أزمات اليوم إلا من خلال تمهيد الطريق أمام اندلاع أزمات أكبر في المستقبل. ما الذي حققوه خلال العقد الماضي بكل الآلام والتقشف والمعاناة التي تسببوا فيها؟

كان هدفهم هو الحد من العجز وتقليص جبل الديون الهائل الذي لم يسبق له مثيل والذي تم بناؤه خلال الفترة السابقة. لكن كل ما فعلوه هو تحويل الثقب الأسود الضخم في البنوك الخاصة إلى ثقب أسود ضخم في المالية العامة. كانت البنوك تقف على حافة الانهيار، ولم يتم إنقاذها إلا بتدخل الدولة، التي أنقذتها من خلال منحها تريليونات الدولارات من المال العام. لكن المشكلة هي أن الدولة لا تملك أي أموال باستثناء ما تستطيع اعتصاره من دافعي الضرائب.

والسؤال بالتالي هو: من سيدفع الفاتورة؟ من المعروف أن الأغنياء لا يدفعون ضرائب كثيرة، فلديهم ألف وسيلة لتجنب هذه الضرورة المؤلمة. وبالتالي فإنه على الطبقة العاملة أن تدفع، وعلى الطبقة المتوسطة أن تدفع، وعلى العاطلين عن العمل أن يدفعوا، وعلى المرضى أن يدفعوا، وعلى المدارس أن تدفع. يجب على الجميع أن يدفعوا ما عدا الأغنياء الذين أصبحوا أكثر غنى حتى خلال مرحلة "التقشف" الحالية.

هل أعطى كل هذا أي حل؟ تعاني سبعة من أكبر عشرة اقتصادات في العالم من عجز حكومي سنوي يتجاوز 3% من الناتج المحلي الإجمالي، وحدها ألمانيا من تعاني من عجز بنسبة أقل من 2%. قيمة الديون ترتفع في كل مكان. ولا توجد أية طريقة للخروج من الأزمة ما لم يتم التخلص من هذه الديون بطريقة أو بأخرى. كيف يمكن التخلص من الدين العمومي؟ يتم ذلك بطبيعة الحال من خلال وضع العبء بأكمله على أكتاف أفقر فئات المجتمع وأكثرها هشاشة.

إن السيناريو الذي نشهده على المستوى العالمي غير مسبوق حقا. ونحن نتحدث هنا فقط عن البلدان الرأسمالية المتقدمة، أما الوضع في ما يسمى بالعالم الثالث فهو مسألة أخرى، حيث يفرض البؤس البشع والمعاناة التي لا يمكن تصورها، والتجويع والانحطاط على ملايير الرجال والنساء والأطفال.

نمت التجارة العالمية، على مدى عقود، بشكل أسرع من نمو الإنتاج، مما وفر القوة المحركة لنمو الاقتصاد العالمي. لكن خلال الفترة الأخيرة تباطأ نمو التجارة العالمية إلى مستوى أدنى من الناتج الإجمالي. بلغت نسبة التجارة العالمية من الناتج الإجمالي ذروة 61% مرتين، المرة الأولى عام 2008 والثانية عام 2011، لكنها الآن انخفضت إلى 58%.

أعربت منظمة التجارة العالمية عن قلقها من احتمال لجوء الحكومات الوطنية إلى الدفاع عن أسواقها الخاصة باتخاذ إجراءات حمائية، وهو ما من شأنه أن يؤثر سلبا على نمو التجارة العالمية. وكأنما لتأكيد هذه المخاوف فقد اقتحم دونالد ترامب المشهد مثل فيل هائج داخل متجر للخزف الصيني. إن سياسته "أمريكا أولاً" هي بحد ذاتها انعكاس للأزمة العالمية. إنه يرغب في "جعل أميركا عظيمة مرة أخرى" على حساب بقية العالم. وهذا يعني أنه يرغب في استخدام القوة الأمريكية للاستيلاء على حصة متزايدة من الأسواق العالمية.

خلال السنوات القليلة الماضية كان الرأسماليون الأمريكيون يكافحون من أجل عقد عدد من الصفقات التجارية مع أوروبا وأمريكا اللاتينية وآسيا. لكن أول شيء قام به ترامب هو تمزيق اتفاقية الشراكة عبر الهادي (TPP) واتفاقية الشراكة الأطلسية للتجارة والاستثمار (TTIP). كما أنه يهدد بتمزيق اتفاق أمريكا الشمالية للتبادل الحر (NAFTA) إذا لم يتمكن من التوصل إلى اتفاق تضحي فيه كل من المكسيك وكندا بمصالحهما لأجل الولايات المتحدة الأمريكية ويهدد بشل منظمة التجارة العالمية من خلال منع استبدال القضاة في محاكمها.

لدى الصين فائض تجاري ضخم مع الولايات المتحدة الأمريكية، وهو رقم قياسي بلغ 275,81 مليار دولار عام 2017، وهذا أحد الأسباب الرئيسية التي تجعل ترامب يشكو من أن الصين تضر بالاقتصاد الأمريكي. خلال الحملة الانتخابية اتهم ترامب الصين بـ "اغتصاب أمريكا" وسرقة الوظائف الأمريكية، إلخ. لكنه بعد ذلك اضطر لتلطيف لهجته أملاً في إقناع الصين بالضغط على كوريا الشمالية. لكن هذا الهدف لم يتحقق وما تزال التناقضات بين أمريكا والصين بدون حل. يحبل الوضع بالفعل باحتمال حرب تجارية مستقبلية بين أمريكا والصين.

إنه ليس الوحيد الذي يتبع هذه السياسة، فمنذ بداية الأزمة اتخذت البلدان الرأسمالية المتقدمة إجراءات لزيادة فوائضها التجارية. وقد تم ذلك جزئيا من خلال تطبيق عدد من الإجراءات الحمائية. كانت الولايات المتحدة (تحت قيادة أوباما) قد صارت رائدة على مستوى العالم في مجال الحمائية، لكن حتى المملكة المتحدة وإسبانيا وألمانيا وفرنسا صاروا أكثر حمائية من الصين.

يجب أن نتذكر أن الحمائية كانت هي السبب الذي أدى إلى تحويل انهيار عام 1929 إلى ذلك الكساد العظيم الذي شهده عقد الثلاثينيات من القرن العشرين. تطبيق السياسات الحمائية يمكنه أن يتسبب في انهيار الهيكل الهش للتجارة العالمية، مع ما سيترتب عن ذلك من عواقب وخيمة.

يظهر الضعف النسبي للولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية في حقيقة أن أكثر من 50% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي كان يتم إنتاجه في الولايات المتحدة، في حين صار الرقم اليوم هو حوالي 20%. عندما نشير إلى الضعف النسبي للإمبريالية الأمريكية، لا ينبغي لنا أن نبالغ في هذه السيرورة. نعني بحديثنا عن ترجعها النسبي، أنها ضعفت ولا يمكن لها أن تلعب نفس الدور الذي كانت تلعبه في الماضي، كما نرى ذلك في الأزمة السورية. لكن الولايات المتحدة ما تزال القوة المسيطرة على الصعيد العالمي ولا توجد قوة أخرى في وضع يمكنها أن تحل محلها، مثلما حلت الولايات المتحدة محل بريطانيا في الماضي، على سبيل المثال.

لقد أثر هذا التراجع النسبي على كل من قدرتها على السيطرة على العالم اقتصاديا وسياسيا ودبلوماسيا، وقدرتها على أن توفر للعمال الأمريكيين مستوى المعيشة الذي كان وراء الاستقرار الداخلي النسبي في الماضي. وقد بدأت هذه الحقيقة الآن تتسرب إلى وعي الجماهير الأمريكية.

الحلم الأميركي انتهى، وقد تم استبداله بالكابوس الأمريكي. الحلم انتهى وليست هناك طريقة لاسترداده. وقد عبّر التغيير في الوعي في أمريكا عن نفسه بطريقة غريبة خلال الانتخابات الرئاسية في نوفمبر 2016.

على مدى مائة عام قام استقرار الرأسمالية الأمريكية على حزبين: الحزب الديموقراطي والحزب الجمهوري. وقد تناوب هذان الحزبان على الحكم طوال هذا الوقت.

هناك استياء كبير ورغبة ملحة في التغيير. رأينا ذلك عند التصويت لأوباما، الذي كان قد قدم بشكل ديماغوجي وعودا بالتغيير. كان ملايين الناس، الذين لا يصوتون عادة، يقفون في صفوف لأجل التصويت لرئيس أمريكي أسود. لقد فعلوا ذلك مرتين، لكن في النهاية لم يكن هناك أي تغيير. وبالتالي فقد اندلعت حالة من الغضب والمرارة والإحباط، خاصة بين الفئات الأكثر فقرا.

تم التعبير عن هذا المزاج بوضوح في حملة بيرني ساندرز. في البداية كان بيرني ساندرز بالكاد معروفا من عند قلة من الناس، بينما كان الجميع يعرف هيلاري كلينتون. لكنه عندما تحدث عن ضرورة ثورة سياسية ضد طبقة أصحاب الملايير، دق خطابه ذاك وترا حساسا عند العديد من الناس، وخاصة الشباب (لكن ليس الشباب فقط). كانت هناك اجتماعات جماهيرية من عشرات الآلاف لدعم بيرني ساندرز. وقالت دراسة، واحدة على الأقل، أنه لو كان ساندرز هو من وقف ضد ترامب لكان من الممكن أن يفوز. لكنه تعرض للمناورة من قبل آلة الحزب الديمقراطي. والأسوأ من ذلك هو أنه قبلها، الشيء الذي تسبب في نوع من الإحباط بين مؤيديه.

تحب الطبقة الحاكمة أن يكون لديها أناس يمكنها التحكم فيهم، تحب أناسا مثل هيلاري كلينتون. لم يرغب الرأسماليون في دونالد ترامب وما زالوا غير راغبين فيه، لأنه متمرد ويعاني من حالة متطرفة من جنون العظمة، وبالتالي من الصعب التحكم فيه. أما هيلاري كلينتون فهي عميلة للشركات الكبرى. يمثل ترامب نفس الطبقة لكن لديه أفكاره الخاصة لكيفية القيام بالعمل. وخلال الحملة الانتخابية خاطب العمال بشكل ديماغوجي. كانت تلك هي المرة الأولى، في التاريخ الحديث، التي يشير فيها مرشح رئاسي إلى الطبقة العاملة (مثلما فعل بيرني ساندرز كذلك). كان ذلك شيئا غير مسبوق. حتى الليبراليين اليساريين والقادة النقابيين كانوا يتحدثون دائما عن "الطبقة الوسطى".

عمل النظام جاهدا لوقف ترامب، لكنه فشل. لقد وقفت الطبقة الحاكمة ضد هذا المتطفل الديماغوجي؛ كان الديمقراطيون ضده، بطبيعة الحال، وكذلك أغلبية الجمهوريين. كل وسائل الإعلام كانت ضده. بل إنه نجح في دفع "فوكس نيوز" ضده لبعض الوقت. وسائل الإعلام هي بلا شك أداة قوية في أيدي الطبقة الحاكمة، لكنه، مع ذلك، تمكن من الفوز.

وقد التقى بيرني ساندرز بنفس المزاج، لكنه تعرض للعرقلة، كما كان متوقعا، من قبل آلة الحزب الديمقراطي. وعندما استسلم ساندرز أخيرا ودعا إلى دعم هيلاري كلينتون، رأى الكثيرون في ترامب أنه "أهون الشرين"، فتمكن من الفوز في الانتخابات. كثير من الناس الذين كانوا سيصوتون لصالح ساندرز إما امتنعوا عن التصويت أو فكروا في أنه "إذا لم يكن ممكنا التصويت لصالح ساندرز، فسنصوت لصالح ترامب".

تميزت حملة ترامب بحشد وتعبئة قسم من الناخبين كان خاملا في السابق، وتمكن من الحصول على عدد أصوات أكثر من أي مرشح جمهوري في التاريخ، رغم أنه فاز بنسبة أقل من تلك التي حققها المرشح الجمهوري، ميت رومني، في عام 2012. ومع ذلك فإن انتصاره قد فضح أيضا غياب الشفافية والطبيعة غير الديمقراطية للنظام الانتخابي الأمريكي، والذي خدم مصالحه على الرغم من أنه فاز بثلاثة ملايين صوت أقل من هيلاري كلينتون.

لم تكن الغالبية العظمى من البرجوازية راضية عن هذا التحول غير المتوقع في الأحداث. لكن قلقهم لم يكن بدون مبرر. لديهم ألف وسيلة للتحكم في أصعب السياسيين. وقد حاولوا في البداية أن يطمئنوا أنفسهم بفكرة أن ما قاله ترامب خلال الحملة الانتخابية هو مجرد دعاية، وأنه سيتصرف بعقلانية بمجرد دخوله البيت الأبيض (أي ما يعني أنه سيتلقى أوامره من الطبقة الحاكمة). لكنهم كانوا مخطئين، فقد أثبت الساكن الجديد في البيت الأبيض أنه صعب المراس.

لدى الديمقراطيين تفسير مبتذل جدا لسبب انتصار ترامب، إذ ألقوا باللوم على الروس، في حين أن هيلاري كلينتون ألقت باللوم على ساندرز أيضا. كل هذا يثبت أن الحزب الديمقراطي لم يفهم لحد يومنا هذا سبب فوز ترامب في الانتخابات. لقد شنوا حملة زعموا خلالها أن الروس مسؤولون عن عملية قرصنة كانت هي ما حدد نتيجة الانتخابات.

قد تكون مزاعم تورط روسيا في قرصنة المستندات صحيحة أو قد لا تكون. لكن العديد من الدول، ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية، تقوم باستمرار بالقرصنة والتنصت على الهاتف والتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى -بما في ذلك "حلفاؤها"- كما اكتشفت ذلك أنجيلا ميركل. لكن القول بأن الكرملين قد حدد مصير أصوات ملايين المواطنين الأمريكيين هو ادعاء طفولي لأقصى الحدود.

إن الشيء الذي لم يسبق له مثيل هو أن يجد رئيس أمريكي نفسه في مواجهة علنية مفتوحة مع مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) ووكالات الاستخبارات الأمريكية. من المفترض على الأجهزة السرية أن تبقى سرية، وهي في قلب الدولة البرجوازية. لكن أن تتصادم هذه الوكالات بشكل علني مع الرئيس، وأن تحاول بشكل صريح إضعافه وإسقاطه، فهذا شيء لم يسمع به من قبل. ووسط كل الضجة الناتجة عن الصراع نسي الجميع الآن ما كان متضمنا في الرسائل الإلكترونية المخترقة، ولم يهتم أحد بالسؤال عما إذا كانت محتوياتها صحيحة.

في الواقع كانت الاتهامات الواردة في المادة التي نشرها موقع ويكيليكس صحيحة تماما. ومن بين الأشياء الأخرى التي فضحتها أن جهاز الحزب الديمقراطي استعمل الحيل القذرة لعرقلة بيرني ساندرز وتأمين انتصار هيلاري كلينتون. لقد كان هذا بالتأكيد أكثر التدخلات في الانتخابات الأمريكية وقاحة. لكن في خضم كل الصراخ حول "التدخل الروسي"، تم نسيان ذلك بسهولة.

الثورات لا تبدأ من تحت؛ إنها تبدأ بالانشقاق داخل الطبقة الحاكمة. لدينا هنا انشقاق مفتوح في الدولة. ما نشهده ليس أزمة سياسية عادية، إنها أزمة النظام. إن أجهزة الاستخبارات لا تحب أن ينفضح تدخلها في السياسة، رغم أنها تقوم بذلك طوال الوقت. إنها حالة لا تصدق حيث يتم استعراض مكائد ومؤامرات مكتب التحقيقات الفيدرالي أمام المواطنين الأميركيين العاديين.

ليست للوضع السياسي الحالي في أمريكا سابقة في التاريخ. فالرئيس المنتخب هو في مواجهة مباشرة مع أغلبية أجهزة الدولة ووسائل الإعلام ومكتب التحقيقات الفيدرالي ووكالة الاستخبارات المركزية وجميع الأجهزة السرية الأخرى، التي تستخدمها الطبقة الحاكمة للتخلص من ترامب أو إجباره على إطاعتها.

لقد ابتلع الكثير من اليساريين في أوروبا فكرة أن الشعب الأمريكي شعب رجعي ويميني ولن يدعم أبدا الاشتراكية. هذا غير صحيح على الاطلاق. كان هناك استطلاع للرأي تم إجراؤه حتى قبل انطلاق حملة ساندرز، طرح على شباب دون الثلاثين من العمر سؤال: "هل تصوتون لرئيس اشتراكي؟" فأجاب 69% منهم: "أجل" (انظر استطلاع (Gallup Poll

نفس الاستطلاع طرح نفس السؤال على أمريكيين يبلغون من العمر أكثر من 65 سنة فأجاب 34% منهم 'فقط': "أجل". لكن هذه النتيجة أكثر تعبيرا، فبعد 100 عام من الدعاية الخبيثة ضد الاشتراكية والشيوعية، تبين هذه النتيجة تغييرا مذهلا في الوعي.

لا يقتصر هذا التغيير الذي حصل في الوعي على قاع المجتمع فقط، إذ أن دونالد ترامب يعكس بطريقة خاصة ورجعية ومشوهة غضب الملايين من أبناء الطبقة العاملة وغيرهم ضد الظروف القائمة والنظام الحالي، وضد ما يسميه المؤسسة. بالطبع لا يمكن للجماهير أن تتعلم إلا من خلال التجربة، وسوف تظهر التجربة -وقد بدأت تظهر- أن ذلك هراء، وبالتالي سيتم تحضير الساحة لاندلاع تحركات كبيرة خلال الفترة القادمة.

في الواقع لقد بدأ ذلك يحدث بالفعل، فمباشرة بعد انتخاب ترامب اندلعت مظاهرات حاشدة في كل المدن. وقد كانت مسيرة النساء أكبر احتجاج في يوم واحد شهدته الولايات المتحدة في تاريخها. كان في نهاية الأسبوع الذي نصب فيه، وكان ذلك فقط بداية ما سيأتي لاحقا.

السبب في كراهية الطبقة السائدة لترامب هو كونه وجه ضربة مدمرة للتوازن البائس الذي كان قائماً بين الديموقراطيين والجمهوريين. إن تقويض ذلك التوازن يمكنه أن يؤدي إلى عواقب خطيرة للغاية، كما رأينا خلال الإغلاق الحكومي الأخير. ويعكس انهيار ما يسمى بالوسط السياسي اتساع الهوة والاستقطاب الحاد بين الطبقات في المجتمع الأميركي، وهو ما ستترتب عنه أخطر الآثار في المستقبل.

يتحمل أوباما والديموقراطيون المسؤولية عن فوز دونالد ترامب. لكن ترامب نفسه يعمل على تعميق سيرورة التجذر الاجتماعي والسياسي، ويعبد الطريق لحدوث تحول أكبر في اتجاه اليسار. وفي إدانة خطيرة لنظام الحزبين، تظهر أحدث استطلاعات الرأي أن 61% من الأمريكيين يعارضون كلا من الديموقراطيين والجمهوريين ويعتقدون أن هناك حاجة إلى حزب كبير جديد. يصل الرقم بين الشباب إلى 71%. وقد أدى هذا الاستقطاب في الولايات المتحدة -في اتجاه اليمين واليسار- إلى النمو المفاجئ لحركة الاشتراكيين الديمقراطيين في أمريكا، التي هي مجموعة يسارية كانت تاريخيا على هامش الحزب الديمقراطي.

قبل حملة ساندرز، كانت هذه المجموعة تضم حوالي 6000 عضو، معظمهم من كبار السن المتشبعين بتصوراتهم الإصلاحية. لكن منذ انتخاب ترامب تضاعف أعضاء الحركة إلى أكثر من 30.000 عضو، معظمهم من الشباب الباحثين عن منظمة اشتراكية. لقد تمكنوا من الوصول إلى كثير من المناطق التي لم يكن لهم فيها أي وجود في السابق، وصاروا يطورون قاعدة دعم لهم في العديد من الجامعات في جميع أنحاء الولايات المتحدة. هناك الآن جدل داخلي بينهم حول ما إذا كانوا سيقطعون تماما مع الحزب الديمقراطي. تتبنى بعض الفئات بينهم أفكارا راديكالية جدا وهي منفتحة بشكل كبير على الأفكار الماركسية الثورية. إن مستقبل هذه المنظمة لم يتحدد بعد، لكنهم إذا قطعوا مع الحزب الديمقراطي وتبنوا موقفا طبقيا مستقلا، سيكون في مقدورهم لعب دور مهم في خلق حزب اشتراكي جماهيري في الولايات المتحدة.

لم تتأثر كندا بشدة بأزمة عام 2008، لأن فقاعة العقار فيها كانت أقل وكان اقتصادها مدعوما بالصادرات إلى الصين المزدهرة. نتيجة لذلك لم تواجه كندا نفس درجة التقشف التي واجهتها بقية بلدان "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية". ومع ذلك، فإن العوامل التي أدت إلى الاستقرار بالأمس صارت تتحول إلى عوامل للاضطراب. فانخفاض معدلات الفائدة أدى إلى ارتفاع الديون وارتفاع هائل في تكلفة السكن. مديونية الأسر وصلت مستوى غير مسبوق، بما يساوي 171% من الدخل السنوي وما زالت في تصاعد. لم يعد الطلب الصيني يدفع أسعار النفط والمعادن إلى الارتفاع كما في السابق، في حين أن وعود ترامب الحمائية بوقف العمل باتفاقية التبادل الحر لأمريكا الشمالية (NAFTA) تهدد الصادرات الكندية. ومن شأن أي تراجع اقتصادي عالمي جديد أن يعجل بانفجار كل هذه التناقضات.

لكن كيبيك شهدت فترة من الصراع الطبقي المكثف، بدء بإضراب طلاب كيبيك سنة 2012. للأسف تراجعت الحركة، بسبب خليط من التطرف اليسراوي لقسم من القيادة الطلابية، والاستسلام الانتهازي من جانب البيروقراطية النقابية، لكن الفئات الكفاحية ما زالت موجودة وتبحث عن إجابات.

الحركة القومية الكيبيكية في أزمة، فقد انتقل الحزب الكيبيكي إلى اليمين وصار يتبنى مواقف قومية عنصرية. شارك الحزب الكيبيكي في الحكومة لسنوات عديدة، خلال السنوات الأربعين الماضية، وهو ما يفسر لماذا يعتبره الشباب جزء من النظام. يمكن لحزب سوليدير (Solidaire) القومي اليساري الكيبيكي أن يلعب دور مجمع لمشاعر الاستياء، لكن قيادته البرجوازية الصغيرة مرتبكة وترتكب أخطاء كثيرة. عادة عندما يركزون على القضايا الطبقية يحصلون على الدعم، لكنهم عندما يركزون على الاستقلال يصبحون متماهين مع الحزب الكيبيكي.

لا يوجد حماس لإجراء استفتاءات جديدة لأجل الاستقلال بين العمال والشباب الواعين طبقيا. وفي حين أنه لا ينبغي لنا أن نستبعد احتمال أن يعبر الغضب الطبقي للجماهير عن نفسه من خلال حراك لأجل الاستقلال القومي، فإن ذلك يبدو احتمالا غير متوقع على المدى القريب بالنسبة لكيبيك.

شهد الاقتصاد الصيني خلال الأربعين سنة الماضية تطورا هائلا لقوى الإنتاج. كان ذلك أحد الأشياء الرئيسية التي أنقذت الاقتصاد العالمي من حالة ركود عميق، وحافظت عليه طافيا طيلة ما بين 20 و30 سنة. لكن ذلك وصل الآن إلى حدوده. لقد انخفض معدل النمو في الصين وهو الآن أقل من 7%، وهو المعدل الذي يعتبر منخفضا جدا بالمعايير الصينية.

هناك العديد من التناقضات التي لم تحل في الاقتصاد الصيني. التصنيع الصيني يعتمد بشكل كبير على الصادرات، ومن أجل أن تحافظ الصين على معدل النمو يجب عليها أن تصدر إلى الخارج. فإذا لم تعد أوروبا وأمريكا تستهلكان، كما في السابق، فإن الصين لا يمكنها الإنتاج. وإذا لم تنتج الصين، فإن بلدانا أخرى، مثل البرازيل والأرجنتين وأستراليا، لا يمكنها أن تصدر موادها الخام. هكذا تعبر العولمة عن نفسها بكونها أزمة عالمية للنظام الرأسمالي.

عندما اندلعت الأزمة المالية العالمية أحس حكام الصين بالقلق. ولكي يتمكنوا من تفادي تراكم الاضطرابات التي قد تهدد حكمهم، هم في حاجة إلى الحفاظ على معدل نمو سنوي يبلغ 8%، لذلك فإنهم لجأوا إلى تطبيق سياسات كينزية وأطلقوا خطة جديدة غير مسبوقة للاستثمارات العمومية في البنية التحتية. استخدموا النظام المصرفي العمومي لإطلاق أضخم سياسة للتيسير المالي في التاريخ، وقدموا قروضا منخفضة الفائدة. لكن ذلك يخلق تناقضات جديدة تهدد الاستقرار المستقبلي للصين والعالم بأسره.

نتيجة لذلك ارتفع الدين العمومي الصيني، بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي، منذ عام 2008، إلى 46,2%، على الرغم من أنه ما يزال منخفضا نسبيا مقارنة بما هو عليه الحال في الولايات المتحدة الأمريكية. ومع ذلك فإن الدين الإجمالي (ديون الدولة والأبناك وقطاع الأعمال والأسر) قد تضاعف بشكل كبير جدا وصار يهدد بأن يخرج عن نطاق السيطرة. ارتفع إجمالي الديون الصينية، من حيث القيمة المطلقة، من 06 تريليون دولار، عند انطلاق الأزمة المالية لعام 2008، إلى حوالي 28 تريليون دولار مع نهاية عام 2016. كما ارتفع إجمالي الدين، بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي، من 140% إلى ما يقرب من 260% في نفس الفترة. ولا شك أن الأرقام الرسمية تقلل من الوضع الحقيقي.

من المحتمل أن يكون إجمالي الدين الصيني أقرب إلى 300% من الناتج المحلي الإجمالي، وهذا التقدير لا يشمل القطاع غير المهيكل لقطاع الظل المصرفي (الذي يقدر بأنه يتراوح ما بين 30% و 80% من الناتج المحلي الإجمالي)، وهو ما اعتبره البنك الدولي، في تقريره، الصادر في أكتوبر عام 2017، عن اقتصاديات آسيا والمحيط الهادئ، أحد أكبر المخاطر على الازدهار الإقليمي.

لا شك أن قرار الحكومة بفتح أبواب الاقتراض على مصراعيها قد أنقذ الاقتصاد الصيني على المدى القريب، لكن ذلك أدى إلى تطور اقتصاد يعتمد على الاقتراض وأصيب بفقاعات الأصول المتضخمة. سيأتي الاختبار الحقيقي لذك عندما ستحاول بكين خفض هذا الاعتماد على الديون. يمكن لذلك أن يؤدي إلى انهيار مالي يخشى الاقتصاديون البرجوازيون الجادون أن يكون له تأثير مدمر على الاقتصاد العالمي. وفي العام الماضي حذر صندوق النقد الدولي من تردد بكين في كبح جماح هذه المستويات الخطيرة من الديون.

في هذا الوقت لا يبدو أن انهيار النظام المالي الصيني وشيك، لكن حتى انهيار عام 2008 بدوره لم يكن يبدو وشيكا... قبل وقوعه. صحيح أنه بفعل الوزن الذي يحتله القطاع العام، سيكون في مستطاع الحكومة الصينية أن تمارس رقابة أكبر على كل من المقرضين والمقترضين مما هو ممكن في اقتصاد السوق العادي. يمكنها أن تأمر البنوك العمومية بمواصلة إقراض الشركات التي تسجل خسائر أو توفير السيولة لصغار المقرضين الذين يعتمدون على القروض قصيرة الأجل. ابتداء من نهاية دجنبر 2017، سجلت الصين احتياطيات من العملات الأجنبية قدرها 3,14 تريليون دولار، والتي يمكن استخدامها "للطوارئ"، لكن حتى هذا لن ينقذهم إلى الأبد.

لقد سمح ذلك لبكين بتأخير المشكلات لفترة أطول. لكن تأخير المشكلة لا يعني أنه تم حلها، بل على العكس، كلما سمح للوضع الهش الحالي بأن يستمر مدة أطول، كلما كان انفجار الأزمة أكثر عنفا، عندما سيحدث، بالتأكيد، عاجلا أم آجلا. أدى تباطؤ الاقتصاد إلى زيادة كبيرة في معدلات البطالة التي تعمل الأرقام الرسمية على إخفائها، والتي لا تشمل ملايين المهاجرين الذين يأتون من الأرياف لأنهم لا يستطيعون العثور على عمل. سوف يؤثر ذلك على الوضع السياسي والاجتماعي.

من الصعب أن نعرف بدقة ما الذي يحدث في الصين، فالأخبار في دولة شمولية متحكم فيها بشكل صارم، لكنه كانت هناك اضرابات ومظاهرات واسعة النطاق: تضاعف عدد هذه "الحوادث" كل عام منذ 2011 إلى 2015، ولم يكن ذلك سوى الجزء الظاهر من جبل الجليد. لقد تمكن النظام من وقف موجة الإضرابات بممارسة الضغوط على الشركات التي لا تؤدي الأجور في وقتها، ومن خلال إطلاقه لمتابعات قضائية في الكثير من حالات الفساد لكي يظهر بمظهر من يقف "إلى جانب العمال".

وراء الهدوء الظاهري هناك غضب هائل يتراكم. وسخط الجماهير تذكيه المظالم الكثيرة من قبيل الإجراءات التعسفية التي تنهجها البيروقراطية مع الفلاحين لسلب أراضيهم على يد الموظفين الفاسدين، وتدمير البيئة حيث تختنق بكين وغيرها من المدن في الغيوم السامة، وقبل كل شيء بسبب اللامساواة الرهيبة التي تفضح كذب الادعاءات القائلة بأن الصين بلد اشتراكي.

كان العمال الصينيون يتحملون هذا الوضع طالما كانوا يشعرون أن بعض الأشياء تتقدم وأن الوضع يتحسن. لكنهم بدأوا يرون أن الأمر لم يعد كذلك. يعتمد مصير الصين على مستقبل السوق العالمية. لقد استفادت الصين من مشاركتها في السوق العالمية، لكن التناقضات بدأت الآن تعود لتضربها. هناك وضع متفجر يتراكم ويمكن أن ينفجر على السطح دون أي تحذير.

الصراع مع كوريا الشمالية كشف بوضوح حدود قوة الإمبريالية الأمريكية. كان ترامب قد هدد بتدمير البلد كليا، لكن جميع تهديداته لم يكن لها تأثير في بيونغ يانغ، ما عدا ازدياد الخطابات العدوانية إضافة إلى القيام بعدد أكبر من التجارب النووية والصاروخية التي تحلق فوق اليابان، والتي يزعم كيم جونغ أون أنه يمكنها أن تصل الآن إلى أي منطقة في الولايات المتحدة.

كانت الولايات المتحدة تنوي إقامة قاعدة صواريخ في كوريا الجنوبية، وهو ما عارضته الصين بشدة، فاضطر ترامب إلى ابتلاع كلماته واستجداء دعم بكين للضغط على بيونغ يانغ. في الواقع، تمارس الصين بعض الضغط على نظام كوريا الشمالية بما يخدم مصلحتها، وكبحه لتجنب اندلاع مواجهة مفتوحة وخطيرة مع الولايات المتحدة. ليس هذا ما يريده ترامب، لكن هدف الصين الأساسي في كوريا الشمالية هو ألا تسمح بأي انهيار فوضوي للنظام.

لقد فضح كل هذا عجز الولايات المتحدة عن فعل أي شيء لحماية حلفائها. قال دوتير، رجل الفلبين "القوي" إن الولايات المتحدة تتحدث كثيرا لكنها لن تفعل أي شيء. كما أنه استخلص الدرس الضروري وربط الفلبين بركب الصين. كوريا الجنوبية بدورها أصبحت الآن أقرب إلى الصين دبلوماسيا، وذلك خاصة بسبب التوترات التاريخية التي لها مع اليابان.

كانت تايلاند عادة واحدة من أقرب حلفاء الولايات المتحدة، لكن يقال إنها ستشتري غواصات من الصين، وأيضا تطوير التعاون مع الصين. لقد تم تعليق الصفقة بسبب الضغط الأمريكي، لكن يبدو أنها ستمضي قدما. كانت الولايات المتحدة قد أدانت انقلاب 2014 في تايلاند، بينما أشادت الصين به. كما أقامت فيتنام وماليزيا علاقات اقتصادية وثيقة مع الصين، رغم أن العلاقات بين الصين وفيتنام معقدة بسبب الصراعات الإقليمية، خاصة فيما يتعلق بمزاعم الصين في بحر الصين الجنوبي.

الصين وأمريكا منخرطتان في صراع من أجل الأسواق والنفوذ. تعتبر العديد من البلدان الصين شريكها التجاري الأول، وتمتلك الصين اثنين من أهم الموانئ في العالم، كما يعد مشروع "حزام واحد طريق واحد" أكبر مشروع دبلوماسي ومالي منذ خطة مارشال.

وصلت التوترات بين القوتين أقصى درجاتها في منطقة بحر الصين الجنوبي ، حيث طورت الصين نسختها الخاصة لعقيدة مونرو، التي تعني ضرورة السيطرة على فنائها الخلفي. واشنطن تعارض مشروع "بناء الجزر" الصيني الاستفزازي، فقامت بأرسال سفنها الحربية لحماية ما تسميه "حرية البحار".

قبل الحرب العالمية الثانية ، أدت التوترات بين الولايات المتحدة والصين بالفعل إلى نشوب حرب. لكن الصين التي تمتلك السلاح النووي اليوم لم تعد ذلك البلد الضعيف شبه المستعمر كما كانت في الماضي، وبالتالي لا يوجد أي احتمال لأن تقوم أمريكا اليوم بغزو الصين واستعبادها.

في الشرق الأوسط تظهر تناقضات الرأسمالية العالمية بشكل مركّز. إن أزمة الرأسمالية العالمية هي أيضا أزمة الإمبريالية الأمريكية. وعندما اقتحم الإمبرياليون الأمريكيون الجهلة العراق ودمروا البلد بأكمله، لم يدمروا حياة الملايين فحسب، بل إنهم بتدميرهم للجيش العراقي خربوا أيضا التوازن الهش الذي كان موجودا بين القوى في الشرق الأوسط. وكل الجرائم والفظائع التي حدثت لاحقا ليست، في نهاية المطاف، إلا نتيجة جريمة الإمبريالية الرهيبة تلك.

بعد القضاء على الجيش العراقي نما نفوذ إيران بسرعة على حساب الولايات المتحدة وحلفائها التقليديين، وخاصة المملكة العربية السعودية. وقد كان الصراع الدموي في سوريا، الذي هو في الواقع حرب بالوكالة بين عدة قوى أجنبية، محاولة لاستعادة الأرض المفقودة. كان الهدف منه عزل لبنان وإخراج سوريا من دائرة النفوذ الإيراني، لكن نفوذ إيران اليوم في سوريا ولبنان صار أقوى من أي وقت مضى.

في سوريا ظهرت حدود قوة الإمبريالية الأمريكية بشكل واضح جدا، فأقوى بلد على وجه الأرض غير قادر على التدخل عسكريا بطريقة حاسمة، وهو ما ترك فراغا استفادت منه إيران وروسيا. أدى التدخل الروسي إلى خلخلة موازين القوى بشكل حاسم لصالح الأسد. وكان سقوط حلب بمثابة نقطة تحول حاسمة وهزيمة مدمرة ومهينة، ليس فقط للولايات المتحدة الأمريكية، بل أيضا بالنسبة لحلفائها وخاصة المملكة العربية السعودية.

لقد تم إلحاق الهزيمة بداعش الآن في كل من سوريا والعراق. لكن المشكلة الجذرية لم يتم حلها. ماذا سيحدث الان؟ إن الأتراك يراقبون الرقة والموصل وحتى كركوك مثل الصقور، في انتظار الاستيلاء على ما يستطيعون. وزاد الإيرانيون من نفوذهم في جميع أنحاء المنطقة، أمام قلق أمريكا والسعودية وإسرائيل. في غضون ذلك تشرذم العراق وسوريا وسيستمر الاضطراب فيهما خلال الفترة المقبلة.

يريد قسم من الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة مواصلة الحرب، لكن هذه المحاولة محكوم عليها بالفشل. لقد تغلب عليهم بوتين في كل خطوة. وعندما دعا الروس إلى مؤتمر سلام في أستانا، بكازاخستان (التي هي دولة عميلة لروسيا)، لم يقوموا حتى بدعوة الأمريكيين والأوروبيين. وفي النهاية فعلى الرغم من كل الخطب التي ألقاها الأميركيون اضطروا لأن يقبلوا، على مضض، بالأمر الواقع الذي فرضته موسكو.

الحقيقة الواضحة هي أن الولايات المتحدة قد هُزمت في سوريا، الشيء الذي يعكس تحولا في ميزان القوى في المنطقة. ستكون لذلك عواقب بعيدة المدى، خاصة بين حلفاء واشنطن الذين فقدوا الثقة في الولايات المتحدة وصاروا يتبعون بشكل متزايد مساراتهم الخاصة ويبحثون عن مصالحهم. من المفترض أن تركيا حليفة للولايات المتحدة، وهي عضو أساسي في حلف الناتو، لكن الأتراك والولايات المتحدة صاروا، على نحو متزايد، يدعمون قوى متصارعة فيما بينها في سوريا.

في البداية راهنت الولايات المتحدة على المتمردين الجهاديين المدعومين من تركيا والسعودية، لكن ثبت لها أن ذلك بدون جدوى، واتضح لها مع صعود داعش، أنه لا يمكن الثقة فيهم للدفاع عن المصالح الأمريكية. لذلك اضطر البنتاغون للرهان بكل ثقله على قوات حماية الشعب الكوردية للقتال ضد داعش في شمال سوريا.

لكن ذلك طرح مشكلة. أردوغان لديه طموحات كبيرة في المنطقة. إنه يريد تشييد إمبراطورية على الطراز العثماني، لكن الكورد يمثلون عقبة مادية وسياسية بالنسبة له. إن اهتمامه الرئيسي الآن هو سحق الكورد في كل من تركيا وسوريا. وبعد هزيمته في سوريا، قرر أردوغان تغيير مساره، حيث تحالف مع إيران وروسيا من أجل كسب أوراق للمناورة مع الغرب.

في الواقع، من خلال تطهير روسيا وإيران لحلب وأماكن أخرى من المتمردين، الذين كانت تدعمهم الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى، سمحا لتركيا بالاستيلاء على قسم من شمال سوريا لمنع القوات الكوردية من توسيع أراضيها هناك. لقد وجه هذا التعاون بين تركيا وروسيا وإيران ضربة قاصمة للأمريكيين والسعوديين، الذين تعرض عملاؤهم الجهاديون للسحق أو أجبروا على الالتزام باتفاق أستانة.

إن خطة ترامب لتقويض الاتفاق النووي الإيراني محاولة يائسة لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء. لكن في الوقت الذي تتعرض فيه الولايات المتحدة لضغوط مستمرة من أجل سحب قواتها من الشرق الأوسط، فإن إيران تسيطر على مئات الآلاف من رجال الميليشيات الذين صقلتهم الحروب في العراق وسوريا ولبنان. وهو ما سيشكل العامل الحاسم في آخر المطاف. لقد نأى الأوروبيون بأنفسهم عن سياسة ترامب بشأن إيران، والتي تبين أنها أكثر ضررا على واشنطن مما هي على طهران التي تستمتع بمشهد الخلافات في الغرب.

لقد ضخت السعودية مليارات الدولارات في صناديق أكثر الجماعات رجعية في سوريا. لكنها انهزمت. الحرب السعودية على اليمن فشلت أيضا. فبعد قرابة ثلاث سنوات من القتال الوحشي الذي دمر البلاد كلها وترك الملايين يواجهون المجاعة، ما زال الحوثيون المدعومون من إيران يتمتعون بموقف قوي في مناطقهم، بينما تفكك التحالف السعودي. فالقوات الجهادية والقوات القومية الجنوبية اليمنية والقوات الإماراتية والقوات المدعومة من السعودية، جميعها تتبع أجندتها الخاصة. وهذه هزيمة أخرى ستزيد من تقويض أسس النظام السعودي الفاسد.

حاول السعوديون تأكيد هيمنتهم على قطر، من خلال مطالبتهم لها بقطع علاقاتها مع إيران وتركيا والتوافق مع السياسة الخارجية السعودية. لكن قطر عززت علاقاتها التجارية والعسكرية مع إيران وتركيا. لقد وسعت تركيا قاعدتها العسكرية في شبه الجزيرة - وهو تحذير جدي لآل سعود بألا يتقدموا أكثر. في البداية ألقى ترامب بكل ثقله وراء السعوديين إلى أن أخبره مستشاروه بأن الولايات المتحدة لديها قاعدة عسكرية مهمة جدا في قطر.

كان الملك السابق عبد الله رجعيا متطرفا، لكنه كان ماكرا وحذرا. أما النظام الجديد، بقيادة ولي العهد محمد بن سلمان، أبعد ما يكون عن الحذر. ومثله مثل مقامر خاسر، ها هو ينغمس بشكل محموم في رهانات محفوفة بالمخاطر لمواجهة قوة ونفوذ إيران المتزايد. لكن عوض أن تؤدي هذه الجهود إلى وقف سيرورة الانحطاط السعودي، فإنها تسرعها وتعطيها طابعا أكثر تشنجا.

لقد مددت الإمبريالية لعقود من الزمان حياة هذا النظام الرجعي بشكل مصطنع، وذلك بسبب الدور الخاص الذي لعبه باعتباره المورد الرئيسي للنفط للولايات المتحدة وكقاعدة رئيسية للثورة المضادة في العالم الإسلامي. ومع ارتفاع أسعار النفط كان في مقدور النظام الحفاظ على نفسه من خلال شراء القيادات القبلية والدينية الرجعية التي تشكل قاعدته.

لكن تلك العوامل بدأت تختفي اليوم. لقد أصبحت الولايات المتحدة قريبة من تحقيق الاكتفاء الذاتي في النفط وأدت الأزمة الاقتصادية العالمية إلى انخفاض أسعاره. لقد تراجع دور المملكة في العلاقات العالمية، وبالتالي بدأت مصالح المملكة العربية السعودية ومصالح الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة تتباعد. كما تعمل الأزمة على تقويض احتياطيات السعودية، مما يجبرها على تنفيذ سياسة التقشف للمرة الأولى في تاريخها. لم يعد بإمكانهم اليوم شراء الاستقرار الاجتماعي عن طريق رشوة السكان المحليين بإعانات سخية ووظائف مضمونة في القطاع العام.

سوف تتحد كل هذه العوامل، على المدى المتوسط، لتقويض استقرار النظام الذي يمكن أن يسقط في أية لحظة مثل تفاحة متعفنة. وأي نظام سيحل محله لن يكون موافقا لرغبات واشنطن. لقد صار النظام القديم، الذي أقامته الإمبريالية البريطانية والأمريكية في المنطقة، يتفكك تحت تأثير أزمة الإمبريالية الأمريكية.

وكما لو أن كل ذلك لم يكن أكثر من كاف، جاء قرار ترامب الغبي والوقح بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل والموافقة على نقل السفارة الأمريكية إلى تل أبيب ليضيف عنصرا جديدا للوضع المضطرب والمتفجر في الشرق الأوسط، كما تسبب في خلق مزيد من الانقسامات بين الإمبرياليين الأوروبيين والأمريكيين. يخشى الأوربيون من عواقب ذلك على ما يسمى بمحادثات السلام، التي لا يأخذها أحد على محمل الجد على أي حال، بينما الأمريكيون، كالعادة، لا يفهمون أي شيء ولا يتوقعون أي شيء.

ومع ذلك يبدو من غير المعقول أن يكون ترامب قد اتخذ هذا القرار دون علم القادة السعوديين وموافقة ضمنية من جانبهم. إن السعوديين الآن متوافقون بشدة مع ترامب والإسرائيليين ومهتمون بشكل رئيسي بمواجهة إيران. لقد وافقوا على طعن الفلسطينيين في الظهر في حين استمروا في إصدار بعض الضجيج الضروري لخداع الجماهير العربية. وهذا سيثبت في النهاية أنه مسمار آخر في نعش النظام السعودي الفاسد الخبيث.

إن الثورة التي اجتاحت المنطقة، ما بين 2011 و2013، فشلت لأنها كانت تفتقر إلى قيادة ثورية. واليوم، تراجعت الحركة العامة، المتعبة والمرهقة، وتركت المجال مفتوحا أمام الردة الرجعية. إن صعود الرد الرجعية الإسلامية في جميع أنحاء المنطقة مرتبط بانحسار مد الحركة الثورية.

ومع ذلك، تظهر أحداث عام 2017 في المغرب أن الثورة لم تمت. كانت الانتفاضة التي شهدتها منطقة الريف أكبر حركة يشهدها البلد منذ ثورة 2011 في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. كان السبب المباشر الذي أشعل الانتفاضة هو قتل الشرطة لبائع أسماك شاب بسحقه في شاحنة قمامة. وبمجرد أن انطلقت هذه الحركة الرائعة، تطورت بسرعة وكثافة لا تصدقان. ونشأت حركة تضامن وطنية من جانب الطبقة العاملة، ومختلف الفئات المضطهدة الأخرى، التي خرجت بمطالبها الخاصة، والتي لم تكن مطالب قومية ولا طائفية.

لقد كانت هذه الحركة بشيرا بالتطورات التي ستشهدها بقية المنطقة، حيث لا يوجد ولو نظام واحد مستقر. جميع الأنظمة في المنطقة ضعيفة وتكافح من أجل بقائها، ولا تستطيع حل أي من المشاكل التي تعيشها الجماهير والتي تتعرض بدورها لضغوط هائلة. سوف تعود الحركة، سواء عاجلا أم آجلا، إلى النهوض من نقطة أعلى.

تسببت الأزمة المتعلقة بالبرنامج النووي لكوريا الشمالية في الكثير من الكلام عن احتمال اندلاع حرب عالمية. لكن ذلك سابق لأوانه، على أقل تقدير. ففي ظل الظروف المعاصرة صار احتمال اندلاع حرب عالمية جد مستبعد بفعل ميزان القوى الطبقي على الصعيد العالمي. لا يقوم الإمبرياليون بالحرب لأسباب عشوائية. إن البرجوازية تلجأ إلى الحرب لغزو الأسواق ومناطق النفوذ، لكن الحرب عمل مكلف للغاية ومحفوف بالمخاطر، ومع الأسلحة النووية، تتضاعف المخاطر ألف مرة. هذا هو السبب في أن الولايات المتحدة، وهي القوة العسكرية الأبرز على الإطلاق، لم تتمكن من إعلان الحرب على كوريا الشمالية الصغيرة.

لا تملك روسيا القوة العسكرية التي تملكها أمريكا، إلا أنها رغم ذلك دولة قوية جدا من الناحية العسكرية. وهي أقوى عسكريا من الإمبريالية البريطانية أو الفرنسية أو الألمانية، سواء من حيث الأسلحة التقليدية أو النووية. لم يستطع الغرب فعل أي شيء لمنعها من السيطرة على شبه جزيرة القرم (حيث غالبية السكان من الروس على كل حال)، كما لم يستطع فعل أي شيء لمنعها من التدخل لإنقاذ نظام الأسد في سوريا. تكشف هاتان الحالتان حدود قوة الإمبريالية الأمريكية.

في العام الماضي أرسل الناتو بضعة آلاف من الجنود إلى بولندا كتحذير لروسيا. كان ذلك مجرد مسرحية. فرد الروس بإجراء أكبر مناورات عسكرية مع روسيا البيضاء على حدود بولندا بالضبط. كان ذلك بمثابة تحذير بسيط لحلف الناتو. من الناحية العسكرية، ليست بريطانيا في أيامنا هذه شيئا يذكر، بالمقارنة مع روسيا، ومثلها في ذلك فرنسا، أما ألمانيا فهي لا شيء على الإطلاق.

يشكل ميزان القوى الطبقية العالمي حاجزا جديا أمام شن حرب كبرى. يجب أن نتذكر أنه قبل أن تندلع الحرب العالمية الثانية، كانت الطبقة العاملة قد تعرضت لسلسلة كاملة من الهزائم الساحقة في المجر وإيطاليا وألمانيا وإسبانيا... أما الآن فإن قوات الطبقة العاملة سليمة. لم تتعرض الطبقة العاملة في البلدان الرأسمالية المتقدمة لأي هزائم خطيرة.

لقد تعب الشعب الأمريكي من المغامرات العسكرية. أحرقت الإمبريالية الأمريكية أصابعها بشكل خطير في العراق وأفغانستان، حيث خسروا كمية هائلة من الدماء والثروات دون تحقيق أي شيء. ونتيجة لذلك، لم يكن أوباما قادرا حتى على إصدار أمر بتدخل عسكري في سوريا. لقد حاول لكنه رأى أن ذلك من شأنه أن يثير انتفاضة شعبية واسعة، فاضطر إلى التراجع. نفس الشيء ينطبق على حكومة المحافظين برئاسة كاميرون في بريطانيا.

لا يمكن أن تكون هناك حرب عالمية، على الأقل في المستقبل المنظور، إلا إذا وصل إلى السلطة في الولايات المتحدة نظام شمولي على أساس هزيمة ساحقة للطبقة العاملة الأمريكية. سيكون ذلك تغيرا نوعيا في ميزان القوى. لكن هذا ليس الوضع في المستقبل القريب، بل على العكس من ذلك، سوف يستمر البندول لفترة طويلة في التأرجح إلى اليسار.

إن ترامب سياسي برجوازي رجعي، لكنه خلافا للمزاعم الديماغوجية لبعض اليساريين، ليس فاشيا ولا يقف على رأس دولة استبدادية مثل دولة هتلر. بل إنه، على العكس، لا يسيطر على الدولة إطلاقا: إنه في حالة حرب معها. إنه لا يملك حتى السيطرة الكاملة على الكونغرس، على الرغم من أن الكونغرس تحت هيمنة الحزب الجمهوري. إن سيطرته على السلطة، في الواقع، ضعيفة للغاية. إن الرجل القوي في البيت الأبيض يقف على أقدام من طين.

على الرغم من أن الحرب على شاكلة ما حدث في 1914- 1918 و1939- 1945، صارت مستبعدة في ظل الظروف الحالية، فإنه ستكون هناك طوال الوقت حروب صغيرة متواصلة، والتي ستكون، في ظل الظروف الحديثة، مخيفة بما فيه الكفاية. كانت الحرب في العراق حربا صغيرة، وكانت الحرب في سوريا حربا صغيرة. وقد أودت الحرب الأهلية في الكونغو بحياة ما لا يقل عن خمسة ملايين شخص، لكنها لم تظهر حتى على الصفحات الأولى للصحف. سوف نشهد مثل تلك الأحداث مرارا وتكرارا. وفي الوقت نفسه فإن انتشار الإرهاب يعني أن هذه الهمجية بدأت تصل إلى أوروبا "المتحضرة". هذا ما كان يعنيه لينين عندما قال إن الرأسمالية هي الرعب بدون نهاية.

1: حزام الصدأ (Rust Belt): مصطلح يطلق على المنطقة الممتدة من نيويورك حتى الغرب عبر بنسلفانيا وولاية فرجينيا الغربية وأوهايو وإنديانا... كانت هذه المنطقة معقل الصناعة الأمريكية، لكنها تعرضت، منذ منتصف القرن 20، لتدهور اقتصادي كبير ونقل الصناعات خارجها وإغلاقات المصانع مما أدى إلى ارتفاع معدلات البطالة والفقر والهجرة. والصدأ كناية عن الآلات المتآكلة والمصانع المغلقة. [المعرب]