البلشفية طريق الثورة الفصل الخامس: سنوات الحرب التيارات داخل الاشتراكية الديمقراطية الروسية

إن الحرب، وبالرغم من كل أهوالها وقسوتها، لها على الأقل ميزة فضح كل الأكاذيب التي تكون مخفية في المجتمع والسياسة. فهي تضع جميع التيارات موضع الاختبار، وتعري جميع المزاعم بقسوة، بحيث تصير المناورات الدبلوماسية مستحيلة، ويقدم التاريخ حكمه النهائي. تبحث الحروب والثورات عن أي نقطة ضعف عند الأحزاب أو البرامج أو الأفراد وتدمرها. ظهرت موجة الشوفينية القومية، التي اجتاحت المجتمع، كما لو أنها تكتسح كل شيء أمامها. لقد سقط تحت تأثيرها الكثير من الثوريين البارزين، بمن فيهم منظّر اللاسلطوية الشهير: كروبوتكين، بحيث أصبح ذلك المدافع عن "المساعدة المتبادلة" داعية للتدمير المتبادل، كما قال ليونيل كوشان[1]. كل التيارات التي ظهرت في صفوف الأممية الاشتراكية الديمقراطية كان لها امتداد في روسيا، لكن مع اختلاف مهم وهو أن تأثير الجناح الثوري في الاشتراكية الديمقراطية -البلاشفة- كان أقوى بما لا يقاس، وذلك نتيجة لكفاح لينين العنيد ضد الانتهازية طوال الفترة السابقة كلها. وفي المقابل كانت الإصلاحية، سواء في شكلها اليميني أو اليساري، قد صارت ضعيفة ومريضة. وعلى الرغم من أن البلاشفة لم يفلتوا بشكل كامل من التيهان العام وعانوا بدورهم من التذبذبات، خاصة في الفترة الأولى، فإنهم سرعان ما استعادوا رباطة جأشهم، بفضل الموقف الحازم الذي تبناه لينين منذ اللحظة الأولى.

[Source]

كانت الحالة الأكثر إثارة للحزن هي حالة بليخانوف، الذي انتقل إلى الجناح اليميني المتطرف منذ البداية، حيث تبنى موقفا شوفينيا متشددا لم يتقبله حتى المناشفة. ومثله مثل كل الشوفينيين الآخرين، حاول بليخانوف أن يغطّي خيانته بسفسطائية "بارعة"

وعلى النقيض من ذلك فقد فضحت الحرب بحدة الضعف الإيديولوجي المزمن والتذبذب الشديد عند المناشفة الذين سرعان ما انشطروا إلى اتجاهات متصارعة. اندلاع الحرب أخذ المناشفة على حين غرة. وبسبب افتقادهم للبوصلة النظرية انقسموا إلى عدد لا يحصى من الفصائل والمجموعات حول جميع المسائل المهمة التي طرحتها الحرب، بدءا من بليخانوف القومي المتطرف إلى اليساري الوسطي مارتوف. وبين هذا وذاك كانت هناك مجموعة من وجهات النظر الانتقالية. لقد كشفت الحرب بقسوة عجز المناشفة السياسي والتنظيمي. كما أن المثقفين المتحلقين حول المجلة الأدبية ناشا زاريا، بوتريسوف وماينسكي وشيريفانين وماسلوف، تبنوا مواقف الدفاع عن الوطن.

كانت الحالة الأكثر إثارة للحزن هي حالة بليخانوف، الذي انتقل إلى الجناح اليميني المتطرف منذ البداية، حيث تبنى موقفا شوفينيا متشددا لم يتقبله حتى المناشفة. ومثله مثل كل الشوفينيين الآخرين، حاول بليخانوف أن يغطّي خيانته بسفسطائية "بارعة"، وهو الفن الذي كان يتقنه، حيث قال:

«لا يتوقف الصراع بين المستغِلين والمستغَلين عن كونه صراعا طبقيا بمجرد أن يكون المستغِلون على الجانب الآخر من الحدود ويتحدثون لغة أخرى. إن بروليتاريا البلدان التي هاجمتها ألمانيا والنمسا، تخوض صراعا طبقيا أمميا بكونها تصارع، والسلاح في يدها، ضد تحقيق الخطط الاستغلالية للإمبرياليين النمساويين والألمانيين».[2]

لم يصدق لينين إلا بصعوبة ما حدث لمعلمه القديم، خاصة وأنه كان قد اقترب كثيرا من البلاشفة في فترة الردة الرجعية. تتذكر كروبسكايا قائلة: «اكتشفنا في أوائل أكتوبر أن بليخانوف، الذي كان قد عاد للتو من باريس، قد ألقى خطابا في اجتماع في جنيف وأنه سيتولى قراءة بيان في لوزان. كان موقف بليخانوف يقلق إيليتش كثيراً. لم يستطع أن يصدق أن بليخانوف قد أصبح نصيرا "للنزعة الدفاعية". قال: "لا استطيع ان اصدق ذلك"، وأضاف بعد تفكير: "لا بد أن ذلك بتأثير من ماضيه العسكري".»

وبمجرد أن رأى لينين أن بليخانوف قد تجاوز الحد، قرر على الفور أن يواجهه في نقاش مفتوح. كان في البداية، كما تتذكر كروبسكايا، يشعر بالقلق من أنه لن يتم السماح له بحضور محاضرة بليخانوف ويقول ما يريد قوله، قد لا يسمح المناشفة بدخول عدد كبير من البلاشفة.

«أستطيع أن أتخيل كم كان غير مرتاح لرؤية هؤلاء الناس ومتابعة محادثاتهم التافهة، ويمكنني أيضا أن أتفهم الحيل الساذجة التي كان يبتكرها للتخلص منهم. كما يمكنني رؤيته بوضوح وسط صخب مائدة العشاء منطويا على نفسه ومنفعلا إلى درجة أنه لا يستطيع ابتلاع اللقمة. وعندما أعلن بليخانوف ساخرا بشكل متصنع أنه لم يكن مستعدًا لمخاطبة مثل هذا الجمهور الكبير، تمتم إيليتش قائلا: "يا له من ماكر"، وسلم نفسه بالكامل لسماع ما يقوله بليخانوف. الجزء الأول من المحاضرة، الذي هاجم فيه بليخانوف الألمان، لاقى موافقته وتصفيقه. لكن بليخانوف خصص الجزء الثاني من خطابه لطرح وجهة نظره حول "الدفاع عن الوطن". لم يعد هناك مجال للشك بعد الآن. طلب إيليتش الكلمة -وكان هو الوحيد الذي قام بذلك- وصعد إلى المنصة مع كأس بيرة في يده. لقد تكلم بهدوء، لكن شحوب وجهه كان يفضح انفعاله. قال إن الحرب لم تكن حدثا عرضيا، وأنها كانت نتيجة لطبيعة تطور المجتمع البورجوازي نفسه».[3]

لكن الأكثر خطورة، كما أدرك لينين على الفور، كانوا هم الشوفينيون المقَنَّعون، أي أولئك اليساريون السابقون مثل كاوتسكي، الذين كانوا يتمتعون بنفوذ شخصي ضخم والذين أخفوا خيانتهم وراء ستار من السفسطة "الماركسية" المنافقة. / صورة: مفتوحة المصدر

لم يكن أمام لينين سوى عشر دقائق للتحدث، حيث ذكّر الحضور بقرارات المؤتمرات الأممية في شتوتغارت وكوبنهاغن وبال، ودعا الاشتراكيين الديمقراطيين إلى مكافحة السموم الشوفينية والسعي لتحويل الحرب إلى نضال حاسم من جانب البروليتاريا ضد الطبقات الحاكمة. رد بليخانوف بسخريته المعتادة، ولاقى التصفيق الحاد من جانب المناشفة، الذين كانوا يشكلون أغلبية ساحقة. لا بد أن يكون لينين قد أحس بأنه معزول بشكل كامل.

تسببت حمى الحرب في خسائر فادحة أخرى، حيث استسلم بوتريسوف، مثله مثل بليخانوف، للنزعة الشوفينية. بل إن منشفيا بارزا آخر، ج. أ. أيكسينسكي، انتقل إلى اليمين حتى أنه التحق بالجيش الأبيض بعد ثورة أكتوبر. ولم يكن الوحيد في ذلك. لكن دفاع بليخانوف الصارخ عن الاشتراكية الشوفينية لم يجد له صدى في صفوف قواعد الحركة الاشتراكية الديمقراطية، وبقي طوال فترة الحرب معزولا. كتب ماكين عن مجموعة بليخانوف قائلا:

«عدد ضئيل فقط من المثقفين المناشفة في بتروغراد من تبنوا استسلام بليخانوف للنزعة القومية. ومن بين أنصاره القلائل نجد فين إنوتايفسكي، والمنشفي ومحرر مجلة سوفريمينيي مير الشهرية (التي أعادت طبع العديد من مقالات بليخانوف)، يوردانسكي. أوضح مخبر لجهاز الأوخرانا مكلف بتتبع مواقف الاشتراكيين من الحرب، في يناير 1916، أن مؤيدي بليخانوف الروس "لم يمارسوا سوى القليل من التأثير على المزاج العام"».[4]

لكن الأكثر خطورة، كما أدرك لينين على الفور، كانوا هم الشوفينيون المقَنَّعون، أي أولئك اليساريون السابقون مثل كاوتسكي، الذين كانوا يتمتعون بنفوذ شخصي ضخم والذين أخفوا خيانتهم وراء ستار من السفسطة "الماركسية" المنافقة.

في 17 أكتوبر 1914، كتب لينين إلى شليابنيكوف:

«لقد أصبح بليخانوف، كما سبق ربما أن قلت لك، شوفينيا فرنسيا. وبين التصفويين هناك ارتباك واضح. يقولون إن أليكسينسكي قد صار مناصرا للفرنسيين. بينما كوسوفسكي (البوندي اليميني، وقد استمعت لخطابه) قد صار مناصرا للألمان. يبدو كما لو أن التيار الوسطي لكل قادة "كتلة بروكسل" التصفويين، إضافة إلى أليكسينسكي وبليخانوف، سيتبنى موقف كاوتسكي، الذي هو الآن أكثر ضررا من أي شخص آخر. كم هي خطيرة سفسطته التي تغطي حيل الانتهازيين القذرة بالعبارات الأكثر سلاسة ونعومة (في نيو زيت Neue Zeit). إن الانتهازيين خطر واضح، لكن "التيار الوسطي" الألماني، الذي يتزعمه كاوتسكي، خطر خفي، ملون بألوان دبلوماسية، يخدع عين وعقل وضمير العمال، والأكثر خطورة من أي شيء آخر. إن مهمتنا الآن هي النضال غير المشروط والمفتوح ضد الانتهازية العالمية وأولئك الذين يسترونها (كاوتسكي)».[5]

بسبب ضغط البلاشفة، اضطر المناشفة الروس إلى الوقوف على يسار معظم المجموعات الأخرى داخل الأممية. لقد تبنوا ما يشبه موقفا وسطيا، لكنهم سرعان ما انقسموا إلى مجموعتين. كانت غالبية المناشفة أقرب إلى موقف كاوتسكي "الوسطي" من موقف بليخانوف. وخلال الحرب، وفي تناقض حاد مع موقف بليخانوف، وجه المناشفة فريقهم في البرلمان للتصويت ضد اعتمادات الحرب وحافظوا على موقف متردد من مسألة الدفاع عن الوطن. تبنت "اللجنة التنظيمية"، برئاسة ب. ب. أكسيلرود، التي انتخبت في اجتماع غشت 1912، موقفا غامضا (كاوتسكيا) بشأن الحرب، ودعت، كما كانت دائما، إلى "وحدة" جميع الاشتراكيين الديمقراطيين - بمن فيهم بليخانوف وأليكسينسكي! لقد أيدت الفريق المنشفي في الدوما، الذي فشل في البداية في معارضة الحرب، لكنه صوت لاحقا ضد اعتمادات الحرب.

بعد ثلاثة أيام من صدامه مع بليخانوف وفي نفس القاعة -Maison du Peuple- ألقى لينين محاضرته. كتبت كروبسكايا قائلة:

«كانت القاعة مكتظة ولاقت المحاضرة نجاحا باهرا. كان إيليتش ذا مزاج كفاحي متأجج. شرح وجهة نظره من الحرب التي وصفها بأنها حرب إمبريالية. وأشار في كلمته إلى أن اللجنة المركزية أصدرت في روسيا منشورا ضد الحرب، وأن منشورات مماثلة قد صدرت عن المنظمة القوقازية وغيرها من المجموعات. وأشار إلى أن أفضل صحيفة اشتراكية في أوروبا في ذلك الوقت هي غولوس (الصوت)، التي كان مارتوف يكتب فيها. وقال: "بقدر ما أختلف في أغلب الأحيان وبشكل جدي مع مارتوف، بقدر ما يجب علي، بكل تأكيد، أن أقول الآن إنه يقوم بما يجب على الاشتراكي الديمقراطي القيام به. إنه ينتقد حكومته ويندد ببرجوازية بلده ويناضل ضد وزراء بلده"».[6]

وقف مارتوف على يسار المناشفة طوال الحرب. كان الجناح اليساري عند المناشفة في بتروغراد ممثلا من قبل مجموعة المبادرة المركزية، التي دافعت، منذ غشت 1914، عن موقف أممي راديكالي ضد الحرب. في البداية بدا كما لو أن مارتوف يسير في اتجاه البلشفية، ليس فقط في موقفه الأممي، بل أيضا في ما يخص معارضته للتكتل مع الليبراليين.

كتب روبرت ماكين:

«وفي تناقض حاد مع معظم المناشفة، رفض [المناشفة الأمميون] رفضا قاطعا قبول اعتبار البرجوازية "الرجعية" و"المعادية للشعب" حليفا للطبقة العاملة».[7]

أعطى ذلك للينين سببا في الأمل بإمكانية حصول تحالف بينه وبين رفيقه القديم مارتوف، الذي احتفظ له دائما بمشاعر تقدير حارة حتى نهاية أيامه. لكن مارتوف توقف، كالعادة، في منتصف الطريق ولم يصل إلى درجة النضال ضد كاوتسكي. ومع ذلك فإن مارتوف ومجموعته، المناشفة الأمميون، وعلى الرغم من بعض التناقضات، احتفظوا بموقف أممي خلال الحرب.

كان بعض زعماء المناشفة، مثل نواب الدوما تشخيدزه وتولياكوف وسكوبيليف، يميلون إلى موقف "المناشفة الأمميون" المارتوفيين. ودعوا إلى حملة من أجل سلام ديموقراطي بدون إلحاقات، وبعد ذلك أيدوا قرارات كونفرانس زيميروالد، كما أيدوا إعادة بناء الأممية القديمة. وفي وقت لاحق، مع ظهور الكتلة التقدمية والصدام بين مجلس الدوما وبين حكومة جوريميكين، في صيف عام 1915، صارت لدى هؤلاء النواب البرلمانيين الثلاثة أوهام (تقاسمها معهم مارتوف على ما يبدو) حول إمكانية استبدال نظام الثالث من يونيو بجمهورية ديمقراطية من شأنها أن تكون بمثابة حافز لحركة السلام الأوروبية. لم تظهر الآثار الرجعية لهذا النوع من النزعة الإصلاحية اليسارية إلا بعد فبراير 1917، عندما أدت بالمناشفة إلى أن دعموا ليس فقط الحكومة البرجوازية المؤقتة، بل الحرب أيضا.

تروتسكي، الذي كان ما يزال غير منتم بشكل رسمي لأي فصيل، اتخذ موقفا ثوريا أمميا حازما وشارك بلا كلل في التحريض والدعاية ضد الحرب وضد الاشتراكية الشوفينية. ومن منفاه في باريس، نجح تروتسكي في القيام بشيء لم يحققه أي عضو آخر في التيار الأممي الروسي. فبالتعاون النشط مع رفيقيه موناتي وروسمر، اللذان كانا من أبرز قادة الجناح اليساري في فرنسا، نشر صحيفة يومية بعنوان ناش سلوفو (كلمتنا). لعبت صحيفة تروتسكي جنبا إلى جنب مع مارتوف وغيره من الأمميين، وخاصة في فرنسا، دورا هاما في الحملة من أجل عقد كونفرانس أممي، وهو ما أسفر في النهاية عن زيميروالد. اعتاد المؤرخون الستالينيون تصنيف تروتسكي في ذلك الوقت كـ "وسطي". هذا هراء. لم يكن موقف تروتسكي من الحرب يختلف من حيث الجوهر في أي شيء عن موقف لينين. حقيقة أنه لم يكن قد صار بعد عضوا رسميا في منظمة لينين لا تعكس وجود اختلافات سياسية، بل كانت نتاجا لميراث الجدال الذي حدث في الفترة السابقة. على الرغم من بعض الخلافات التكتيكية والشكوك المتبادلة الموروثة من الماضي، كان هناك في الواقع تعاون متكرر بين البلاشفة وبين ناش سلوفو التي استمرت في صراعها ضد الامبريالية حتى تم منعها في النهاية من قبل الحكومة الفرنسية عندما اندلع التمرد على متن الطرادة الروسية أسكولد، الراسية في طولون، وتم العثور على نسخ من الجريدة عند بعض المتمردين.

وكما كان الحال دائما فإن ما فصل بين لينين وتروتسكي لم يكن هو الخط السياسي، بل مسألة وحدة الحزب. فنظرا للصعوبات الهائلة التي كان الجناح الثوري الأممي يواجهها، اعتبر تروتسكي أنه من الضروري أكثر من أي وقت مضى السعي لتوحيد جميع العناصر التي احتفظت بموقف أممي. لم يتضمن ذلك البلاشفة وحدهم، بل كذلك أولئك المناشفة الأمميون، مثل مارتوف، الذين وقفوا بقوة ضد الاشتراكية الشوفينية منذ بداية الحرب. في الواقع كان هناك من بينهم العديد من المناضلين الجيدين، الذين انضم جزء كبير منهم لاحقا إلى الحزب البلشفي ولعبوا دورا بارزا. ومن الأمثلة الواضحة على ذلك نذكر مجموعة ما بين المناطق في بتروغراد (ميزرايونتسي). كما كان هناك لوناتشارسكي، الذي صار لاحقا مفوض الشعب للثقافة والتعليم. لقد تعاون أيضا مع ناش سلوفو، ويتذكر جهود تروتسكي للتوصل إلى وحدة جميع العناصر الأممية الحقيقية، كما يتذكر تذبذب أشخاص مثل مارتوف الذي تبنى موقفا أمميا لكنه لم يكن مستعدا لاستخلاص كل الاستنتاجات الضرورية، حيث قال:

«لقد أردنا بإخلاص أن نتوصل، على أسس أممية جديدة، إلى التوحيد الكامل لجبهة حزبنا من لينين إلى مارتوف. لقد دافعت عن هذا المسار بأكثر الطرق نشاطا، وكنت، إلى حد ما، أول من أطلق شعار "فليسقط الانهزاميون، ولتحيا الوحدة بين جميع الأمميين!". وقد تبنى تروتسكي بشكل كامل هذا الموقف. لقد كان ذلك حلمه منذ فترة طويلة ويبدو أنه يبرر كل مواقفه السابقة.

لم تكن لدينا أي خلافات مع البلاشفة، لكن مع المناشفة كانت الأمور تسير بشكل سيء. حاول تروتسكي بكل الوسائل إقناع مارتوف بقطع صلاته مع المدافعين. تحولت اجتماعات هيئة التحرير إلى مناقشات مطولة، تمكن خلالها مارتوف، صاحب القدرات العقلية المذهلة، وباستعمال نوع من السفسطة الماكرة، من تجنب إجابة مباشرة عن السؤال عما إذا كان سيقطع صلاته مع المدافعين. وفي بعض الأحيان هاجمه تروتسكي بشكل مباشر. وصلت الأمور إلى نقطة انفصال شبه تام بين تروتسكي ومارتوف -الذي، بالمناسبة، كان تروتسكي يحترم ذكاءه السياسي دائما- وفي نفس الوقت وقعت القطيعة بيننا، نحن الأمميون اليساريون، وبين مجموعة مارتوف».[8]

لعبت لجنة ما بين المناطق (ميزرايونكا) دورا هاما طوال الحرب، رغم أنها لم تحظ بالاهتمام الذي تستحقه من جانب المؤرخين. تعود جذور الميزرايونتسي، كما كان يطلق على أعضائها، إلى عام 1913، عندما تم تأسيسها بمبادرة من بلشفي شاب يبلغ من العمر 23 عاما، اسمه ك. ك. يورينيف؛ وم. ييغوروف الذي كان نائبا سابقا في مجلس الدوما الثالثة عن منطقة بيرم؛ والعامل في قطاع الصلب أ. م. نوفوسيلوف، والذي هو مناضل بلشفي منذ عام 1906، وقيادي بارز في نقابة عمال الصلب في جزيرة فاسيليفسكي. كان هدف المنظمة المعلن هو "إعادة توحيد جميع الاشتراكيين الديمقراطيين الثوريين انطلاقا من القاعدة" (أي البلاشفة والمناشفة الموالين للحزب)، والقيام بالتحريض الحزبي بين صفوف القوات المسلحة. لقد اتخذت منذ البداية موقفا مبدئيا فيما يتعلق بالحرب، كما أنها تبنت، بصورة مستقلة عن البلاشفة، في اجتماع عُقد في 20 يوليوز، شعار "الحرب ضد الحرب".

كتب روبرت ماكين:

«خلال الأشهر الستة الأولى، بعد اندلاع الأعمال العدائية، كانت المنظمة "الأكثر نجاحا" بين الفصائل الثورية هي ميزرايونكا. ففي جزيرة فاسيليفسكي كانت إحدى لجان الإضراب البين حزبية قد نجت بعد اضطرابات يوليوز 1914. وفي وقت ما في خريف تلك السنة، تم تأسيس لجنة مقاطعة سرية تابعة للحزب الاشتراكي الديمقراطي والتي تبنت خط ميزرايونكا. عملت الخلايا في 11 شركة، بما في ذلك شركة النفط وشركة سيمنز-شوكرت. وفي أكتوبر ظهرت مجموعة في المدينة، وأسست حلقات في عدة مصانع في بيترسبورغ، من بينها شركة بتروغراد للهندسة وشركة لانجينزيبين. وفي نارفا، حيث لم تكن لميزرايونكا أي جذور قبل الحرب، أسس البلاشفة والمناشفة الموالون للحزب لجنة تمكنت من كسب حوالي 130 عضوا، معظمهم في مصنع بوتيلوف. في نوفمبر صوتت هذه المنظمة المستقلة لصالح الانضمام إلى ميزرايونكا. وقد كانت هذه الأخيرة تمتلك مطبعة أصدرت خمس منشورات وطبعة واحدة من الصحيفة السرية فبريود. لكن، وكما في الماضي، فشلت ميزرايونكا بشكل واضح في اختراق أحياء نيفا وفيبورغ. وبالنظر إلى الأهمية الكبيرة التي أعطتها ميزرايونكا للجيش باعتباره عاملا حاسما لقيام ثورة ناجحة، فقد أنشأت مجموعة دعاية عسكرية تمكنت من إصدار منشور للجنود. لكنها لم تكن تمتلك أية خلايا في وحدات بتروغراد العسكرية. وبحلول نهاية العام، تمكنت ميزرايونكا من كسب أكثر من 300 مناضل. إذا ما نظرنا إلى عضوية لجنة ميزرايونكا، سنجد أن القيادة كانت مشكلة من ثلاث مجموعات في ذلك الوقت: الطلاب وعمال الصلب المؤهلين، ثم عمال المطابع على الخصوص. لكن سرعان ما جذب توسع المنظمة انتباه البوليس. وفي أوائل فبراير 1915، تسببت حملة اعتقالات واسعة في سحقها كليا تقريبا، مما شل نشاطها لعدة أشهر بعد ذلك».[9]

وفي عام 1917، انضمت ميزرايونكا، مع تروتسكي، إلى الحزب البلشفي، ولعبت دورا هاما، كما سنرى لاحقا.

هوامش:

1: L. Kochan, Russia in Revolution, p. 177.

2: G.V. Plekhanov, Voprosy Voiny i Sotsialisma, p. 69.

3: N.K. Krupskaya, Reminiscences of Lenin, p. 286 and pp. 287-88.

4: R.B. McKean, St. Petersburg Between the Revolutions, p. 362.

5: LCW, To A.G. Shlyapnikov, 17/10/1914, vol. 35, pp. 161-62.

6: N.K. Krupskaya, Reminiscences of Lenin, p. 288.

7: R.B. McKean, St. Petersburg Between the Revolutions, p. 364.

8: A.V. Lunacharsky, Revolutionary Silhouettes, pp. 63-64.

9: R.B. McKean, St. Petersburg Between the Revolutions, pp. 373-4.

عنوان النص بالإنجليزية:

Bolshevism: The Road to Revolution