البلشفية طريق الثورة الفصل الخامس: سنوات الحرب كارثة في الجبهة

ظهر الجيش الروسي، في بداية الحرب، كآلة عسكرية هائلة: كتلة لا حصر لها من المقاتلين المستعدين لتقديم حياتهم من أجل القيصر. لقد أعجب الضباط الألمان، ثم شعروا بالذهول، لمشاهدتهم تلك الأعداد الهائلة من المعاطف الرمادية التي تتقدم بلا هوادة في الميادين المفتوحة، فقط لتحصدها الرشاشات الألمانية. كان ذلك هو الجيش الروسي القديم الشهير الذي وصفه تولستوي في روايته "الحرب والسلام"، الذي يتألف من فلاحين جهلة مستعدين لتنفيذ أوامر رؤسائهم بطاعة عمياء، والخضوع بصبر وتسليم مطلق لأقسى التكاليف. إن الأسطورة التي ما تزال، على الرغم من طابعها غير العلمي والعنصري، تقال حتى اليوم عن الشعب الروسي، كـ "تفسير" مفترض للوضع الحالي، قد تعرضت للتفنيد بشكل كامل على محك التجربة التاريخية الواقعية في 1914-1917. لم يستفد الجيش الروسي من العدد الهائل للقوات الموجودة تحت تصرفه. لقد كان يعاني من سوء التجهيز في كل شيء. وحتى الأدوات الأساسية مثل الأحذية والبنادق كانت قليلة، ناهيك عن الدبابات والطائرات والقذائف والرشاشات. ففي عام 1914 لم يكن هناك سوى 679 سيارة (وسيارتي إسعاف آليتين) للجيش بأكمله.

[Source]

كان من المتوقع للجيش الروسي أن يلعب خلال الحرب دور لحم للمدافع لصالح الحلفاء. وهكذا فقد كانت الخطة الأصلية لهيئة الأركان الروسية هي شن هجوم على الجبهة الجنوبية الغربية ضد القوات النمساوية الأضعف، مع الدفاع عن الجبهة الشمالية الغربية ضد ألمانيا الأكثر قوة. لكن وتحت ضغط فرنسا، تم تغيير هذه الخطة إلى القيام بهجوم شامل على كلتا الجبهتين لإجبار الألمان على نقل قواتهم من الغرب، وبالتالي تخفيف الضغط على الفرنسيين. إن الهجوم، الذي ظهر وكأنه بدأ بشكل جيد، انتهى بكارثة تانينبرغ الدامية، حيث تعرض جيش سامسونوف، في نهاية غشت، للحصار والتدمير خلال أربعة أيام في واحدة من أكثر المجازر فظاعة. قُتل أو جُرح 70.000 جندي روسي وأُسر 100.000 آخرين. بينما بلغت خسائر الألمان 15.000 جندي. وفي رده على التعازي التي قدمها له مسؤول فرنسي، أجاب القائد الأعلى للقوات الروسية، الدوق الأكبر نيكولاي، بلا مبالاة: “Nous sommes heureux de faire de tels sacrifices pour nos alliées” ("نحن سعداء بتقديم هذه التضحيات لأجل حلفائنا"). وبحلول نهاية عام 1914 ، كانت الخسائر الروسية قد بلغت حوالي 1,8 مليون قتيل.

كان لكل هذا تأثير تدريجي على سيكولوجية الجنود ومعنوياتهم، بنفس الشكل الذي تحطم به قطرات الماء أكثر الصخور صلابة. ومثلما كانت الطبقة العاملة الروسية بشكل عام متخلصة من النزعة الوطنية، فإن جماهير الفلاحين بالزي العسكري كانوا غير متحمسين لحرب لم يفهموها ولم يتمكنوا من التماهي معها. وسرعان ما وصلت طاعة الموجيك الروسي إلى حدودها القصوى بسبب أشهُـر وسنوات من المشقة والمعاناة والموت. يؤكد أورلاندو فيجيس أن: «الجنود الروس كانوا في أغلبهم متخلصين من النزعة الوطنية».

ولتأكيد هذه النقطة يقتبس العديد من الأمثلة المفيدة:

«خلال الأسابيع الأولى من الحرب، سمع عامل مزرعة من سمولينسك، خدم في الحاميات الخلفية، جنودا فلاحين يقولون:

"أي شيطان جلب علينا هذه الحرب؟ نحن نتدخل في شؤون الآخرين".

"كنا نقول فيما بيننا إنه إذا كان الألمان يريدون الدفع، فسيكون من الأفضل لو يؤدوا عشرة روبلات للرأس بدلا من قتل الناس".

"أليس القياصرة متشابهون؟ لا يمكن أن يكون الأمر أسوء في ظل [القيصر] الألماني".

"فليذهبوا ويقاتلوا بأنفسهم. سيأتي الوقت الذي سنقوم فيه بتصفية الحسابات معكم".

مع استمرار الحرب أصبحت هذه المواقف أكثر شيوعا في صفوف القوات، كما اشتكى من ذلك بروسيلوف:

"ليست للقيادة في روسيا أدنى فكرة عن كيف يرى الجنود الحرب. كثيرا ما أسأل رجالي في الخنادق لماذا نحن في حالة حرب؛ فيكون الجواب دائما هو أن أحد الأرشيدوقات وزوجته تعرضوا للقتل، وعندها قرر النمساويون إذلال الصرب. عمليا لم يكن أحد يعرف من هم هؤلاء الصربيون؛ وقد كانوا متشككين بنفس القدر فيما يتعلق بمن هم السلافيون. لماذا تريد ألمانيا شن الحرب علينا بسبب هؤلاء الصرب، لا يمكن لأحد أن يجيب... لم يسمعوا أبدا بطموحات ألمانيا؛ بل لم يكونوا يعرفون حتى بوجود مثل هذا البلد".»

إن الجيش يعكس دائما المجتمع الذي يتشكل منه. إن الانقسامات الطبقية داخل الجيش القيصري، والنظام العسكري القاسي، والفساد وعدم الكفاءة، واللامبالاة القاسية للضباط تجاه معاناة وقتلى جنودهم، صارت واضحة حتى للجندي الفلاح الجاهل سياسيا. بل حتى قادة الحلفاء أنفسهم صدموا بحجم الفساد المستشري في هيئة الأركان العامة الروسية، التي كانت مجرد صورة طبق الأصل لفساد نظام القيصر وراسبوتين. إن القائد الأعلى نفسه، الدوق الأكبر نيكولاي، لم يشارك أبدا في أي قتال ولم يكن أكثر من صورة، كما يكتب فيجيس: «لم يكن لرئيس أركانه، الجنرال يانوشكوفيتش، أي ميزة سوى أن القيصر منَّ عليه بالمنصب بعد أن اكتشفه عندما كان حارسا شابا في القصر. لم يسبق له أن قاد ولو حتى كتيبة. وقد قال عنه الملحق العسكري البريطاني في ستافكا، العقيد نوكس، إنه كان يعطي "الانطباع بأنه من كونه جنديا"». كان العفن منتشرا من أعلى إلى أسفل. «لقد ارتكب الجنرالات الأرستقراطيون أخطاء لا حصر لها (حتى أن أحدهم كان يمتاز بإصدار أوامر لمدفعيته بإطلاق النار على خنادق مشاته)».

وينعكس المزاج الثوري بين الجنود في تصريحاتهم، حيث كتب أحد الجنود الفلاحين لصحيفة محلية في الوطن:

«انظر إلى الطريقة التي يعيش بها ضباطنا الكبار، أصحاب الأراضي الذين طالما خدمناهم. إنهم يحصلون على طعام جيد وتحصل عائلاتهم على كل ما تحتاج إليه، وعلى الرغم من أنهم قد يعيشون في الجبهة، فإنهم لا يعيشون في الخنادق حيث نعيش نحن، بل على بعد أربعة أو خمسة فيرستات». [الفيرست وحدة قياس مسافات روسية قديمة تبلغ حوالي 1000 متر -المعرب-].

سوف تُظهر أي دراسة عن تمرد الجيش أن قادة التمرد هم في الغالب ضباط الصف. لأنه عادة ما يتم اختيار هؤلاء "القادة الطبيعيين للرجال" من بين أكثر فئات الجنود حيوية وذكاء. وبسبب مسؤوليتهم عن معظم العمليات اليومية التي يقوم بها الجيش، تجدهم في كثير من الأحيان يعادون ويزدرون أصحاب الرتب العليا. كان ستون في المائة من ضباط الصف في الجيش القيصري من أصول فلاحية، معظمهم في أوائل العشرينات من العمر ولم يتلقوا سوى القليل من التعليم. لكن، كما يشير فيجيس:

«كانت الحرب... أداة عظيمة للدَّمَقْرَطة، إذ فتحت قنوات الترقي للملايين من أبناء الفلاحين. كانوا متعاطفين بقوة مع الجنود العاديين، ولم يكن هناك أي أمل في أن يشكلوا جسرا بين الضباط النبلاء وبين الجنود العاديين. كان هذا القطاع العسكري الراديكالي -المتعلم والنشط والمرتبك اجتماعيا والذي صلبته الحرب- هو الذي سيقود تمرد فبراير، ولجان الجنود الثوريين، ويدعم أخيرا قيام السلطة السوفياتية عام 1917. كان العديد من أفضل قادة الجيش الأحمر (على سبيل المثال: تشاباييف وجوكوف وروكوسوفسكي) ضباط صف في الجيش القيصري، مثلما كان جنرالات جيش نابليون قد بدأوا حياتهم جنودا في جيش الملك.»

كتب أحد هؤلاء الضباط في الجيش القيصري، الفلاح ديمتري أوسكين، والذي أصبح فيما بعد عضوا في الحزب الاشتراكي الثوري، في مذكراته في أبريل 1915:

«ماذا نفعل في هذه الحرب؟ لقد مر عدة مئات من الرجال من خلال فصيلتي وحدها وانتهى نصفهم على الأقل إما قتلى أو جرحى في ميادين المعركة. ما الذي سيحصلون عليه في نهاية الحرب؟... لقد منعتني سنة ونصف من الخدمة العسكرية، مع ما يقرب من عام في الجبهة، من التفكير في هذا الأمر، لأن مهمة قائد الفصيلة تتطلب انضباطا صارما، وهذا يعني، قبل كل شيء، عدم السماح للجندي بالتفكير بحرية. لكن هذه هي الأشياء التي يجب أن نفكر فيها».[1]

هذه هي العناصر التي يتم بها صنع الثورات.

من ماي إلى شتنبر 1915، وجه الألمان سلسلة من الضربات الساحقة ضد القوات القيصرية. لقد تم طرد الروس لمسافة 300 ميل، وتخلوا عن مساحة من الأرض أكبر من مساحة فرنسا. كان ثلاثة أرباع مليون جندي روسي في معسكرات أسرى الحرب، وأصبح عشرة ملايين شخص لاجئين. وبلغت خسائر الجيش من القتلى والجرحى والمفقودين ما بين 7,2 و8,5 مليون شخص، أي ما بين 45% و53% من مجموع القوى التي تمت تعبئتها. كما استسلم مليون شخص للقوات الألمانية والنمساوية خلال مرحلة التراجع الكبير. "لم يعد الجيش يتراجع بل كان يهرب بكل بساطة"، هذا ما قاله بوليفانوف، وزير الحرب. «لقد تم تدمير ثقة الجيش في قوته بالكامل... لقد فقد قيادته بالكامل. وتسببت الأوامر المتناقضة، التي كانت تتردد هنا وهناك، والتغييرات المتوالية لضباط القيادة، والارتباك العام، في تحطيم أعصاب حتى أكثر الرجال شجاعة... لم يعد ارتباك قيادة الأركان سرا وهو ما زاد في إحباط الجيش».

وفي نهاية شهر يوليوز، أبلغ وزير الزراعة ، كريفوشين، مجلس الوزراء أن:

«الناس الجياع والمعدمين ينشرون الذعر في كل مكان، ويطفئون كل آثار الحماس الذي كان خلال الأشهر الأولى من الحرب. يتحرك [اللاجئون] في كتلة صلبة، وهم يسحقون الحقول ، ويدمرون المروج والغابات... خطوط السكك الحديدية مزدحمة؛ وحتى تحركات القطارات العسكرية وشحنات المواد الغذائية سوف تصبح مستحيلة قريباً. لا أدري ما الذي يجري في المناطق التي تقع في أيدي العدو، لكنني أعرف أنه ليس فقط خطوط جيشنا القريبة، بل حتى تلك البعيدة أيضا، مدمرة... إنه من صميم اختصاصي ، كعضو في مجلس الوزراء، أن أعلن أن ثاني أكبر هجرة للشعوب، والتي تسببت فيها هيئة الأركان العامة، ستدفع روسيا إلى الهاوية، وإلى الثورة والدمار».[2]

هوامش:

1: O. Figes, A People’s Tragedy: The Russian Revolution 1891-1924, p. 257, p. 258, p. 259, p. 260, p. 264 and p. 265.

2: L. Kochan, Russia in Revolution, pp. 181-82.