البلشفية طريق الثورة: الفصل السادس: سنة الثورة – البلاشفة في فبراير

كان البلاشفة قد فقدوا الكثير من المواقع منذ عام 1914، وكانوا قد تعرضوا مؤخرا للقمع الشديد. يوضح الجدول 6.1، المأخوذ من Istoriya، كيف كانت قوة الحزب في فبراير.

[Source]

(6.1) العدد التقريبي لأعضاء الحزب البلشفي حسب المناطق، في فبراير 1917

المنطقة العدد
بتروغراد 2000
موسكو 600
الأورال 500
ييكاتيرينوسلاف 400
نيجني- نوفوغورود 300
روستوف أريا 170
تفير 150- 120
إيفانوفو- فوزنيسينسك 200- 150
خاركوف 200
سامارا 150
كييف 200
ماكييفسك 200- 180
  المصدر: Istoriya KPSS

عندما نضع في اعتبارنا أننا نتحدث عن بلد ضخم، يبلغ عدد سكانه حوالي 150 مليون نسمة، نرى أن الحزب في بداية الثورة كان متناهي الصغر. لكن من الواجب علينا هنا أن نأخذ عوامل أخرى في الاعتبار: لقد كانت جودة الكوادر البلشفية أعلى بلا شك من بقية التيارات الأخرى. كانوا في معظمهم من الطبقة العاملة، وكانوا قد تلقوا تدريبا أفضل، وأكثر انضباطا من المناشفة والاشتراكيين الثوريين. كانت نسبة عالية منهم تتكون ممن يمكن أن نسميهم بـ “القادة الطبيعيين” في أماكن عملهم، أي تلك العناصر الأكثر وعيا ونضالية الذين يتمتعون بثقة زملائهم العمال. كان كل واحد منهم على اتصال مع عدد أكبر من العلاقات. وكان في إمكانهم، قبل كل شيء، أن يعتمدوا على التقاليد البلشفية التي خلفتها فترة 1912-1914، وخاصة في المراكز الصناعية الكبرى. من الناحية التنظيمية كان المناشفة والاشتراكيون الثوريون في حالة أسوأ بكثير. كان البلاشفة من حيث المبدأ متفوقين على بقية التيارات الأخرى. سوخانوف، الذي كان منشفيا، يشير إلى البلاشفة بأنهم التيار العمالي الرئيسي في بتروغراد في فبراير. لكن ينبغي أن نأخذ في الاعتبار هنا نوعية القيادة البلشفية في بتروغراد. ففي فبراير كان قادة البلاشفة في المدينة هم شليابنيكوف وزالوتسكي والطالب الشاب مولوتوف.

يقول المنشفي اليساري، سوخانوف، في المجلد الأول من تاريخه الزاخر بالمعلومات، والذي كان حاضرا بدوره في الاجتماعات، عن القادة البلاشفة في بتروغراد: «لقد كان لجمودهم، أو بعبارة أصح عدم قدرتهم على التفكير بطريقة صحيحة في المشاكل السياسية وصياغتها، تأثير محبط علينا».

ويعطي سوخانوف التقييم التالي لشليابنيكوف، الذي كان أحد العناصر القيادية:

«شديد الدفاع عن الحزب، يمكن القول إنه متعصب، ومستعد لتقييم الثورة بأكملها من وجهة نظر نجاح الحزب البلشفي. إنه مناضل متمرس في العمل السري، ومنظم تقني ممتاز وعضو عملي جيد في الحركة العمالية، لكنه بالتأكيد ليس سياسيا قادرا على استيعاب وتعميم دروس الظروف الراهنة. فإذا وجدنا أي أفكار سياسية هنا، فإنها تعود إلى تلك القرارات الحزبية القديمة ذات الطابع العام، لكن هذا الزعيم المسؤول عن أكثر المنظمات العمالية نفوذا لم يكن لديه أي فكر مستقل، ولا القدرة أو الرغبة في العمل على أساس التحليل الملموس للحظة الحالية»[1].

لا شك أن المنشفي سوخانوف يستهين بميزات شليابنيكوف، التي يقدمها بطريقة أحادية الجانب. ومع ذلك فإن هناك ذرة من الحقيقة، على الأقل، في هذه اللوحة التي تلخص العديد من الصفات النفسية لمحترفي الحزب البلشفي. وكما حدث في عام 1905، سرعان ما فقد أعضاء اللجان هؤلاء بوصلتهم عندما واجهوا موقفا جديدا وتخلفوا عن الحركة إلى أن أعاد لينين تسليح الحزب بمنظور ثوري جديد. لطالما تم إخفاء هذه الحقيقة من خلال كتب التاريخ السوفياتي. فهي تزعم، على سبيل المثال، أن الحزب أصدر منشورا في 26 فبراير. لكن التحريات الجديدة أظهرت أن لجنة بتروغراد أصدرت أول نشرة لها في 27 فبراير. إلا أنه بحلول ذلك الوقت كانت بتروغراد في قبضة إضراب عام وكان انتشار التمرد داخل صفوف الجيش والبحرية قد حسم مصير النظام. أي، بعبارة أخرى، كانت القيادة البلشفية في بتروغراد تتبع الحركة ولا تقودها.

كيف كان رد فعل الحزب تجاه أحداث فبراير؟ بقول كتاب التاريخ الضخم للحزب الشيوعي الذي صدر في عهد خروتشوف، إن المكتب البلشفي اجتمع، في صباح يوم 25 فبراير، وقرر اتخاذ خطوات نشيطة لنشر الحركة في جميع أنحاء البلاد. لكن تحقيقات أخرى تقدم صورة مختلفة بعض الشيء. ثورة فبراير لم تفاجئ لينين وحده، بل فاجأت الحزب بأكمله. في بداية الثورة كان الحزب ما يزال في وضع ضعيف للغاية. كان ضعيفا لدرجة أن لجنة بتروغراد، كما يشير مارسيل ليبمان في دراسته، لم تكن قادرة حتى على إصدار منشور بمناسبة ذكرى يوم الأحد الدامي في يناير 1917. ومع ذلك ففي غضون بضعة أشهر ارتفع عدد أعضاء الحزب البلشفي أكثر من عشر مرات، مما حوله إلى قوة حاسمة داخل الطبقة العاملة. يعتبر النمو الذي حققه الحزب البلشفي في عام 1917 الأكبر من نوعه في تاريخ الأحزاب السياسية بأكمله. لكن، ومع ذلك، ففي بداية الثورة أظهر الحزب أنه كان غير مستعد. لقد أخذه النهوض الجماهيري على حين غرة. قال مارسيل ليبمان: «بسبب افتقار البلاشفة إلى قيادة قوية وواضحة الرؤية، تعاملوا مع المظاهرات العمالية الأولى في العاصمة بقدر كبير من الاحتياط، بل وحتى الشكوك التي تذكرنا بموقفهم في يناير 1905. لقد كانوا معزولين إلى حد ما في المصانع التي كانوا يعملون فيها».

في بداية الثورة لم يقدم البلاشفة صورة جيدة عن أنفسهم. لقد تجاوزتهم الحركة إلى درجة أن بلاشفة بتروغراد حاولوا في البداية كبح الحركة في اليوم العالمي للنساء. ويتذكر ف. ن. كايوروف، وهو عضو في اللجنة الرئيسية لمقاطعة فيبورغ، كيف تدخل في اجتماع للعاملات في 22 فبراير:

«شرحت معنى “اليوم العالمي للنساء” والحركة النسائية بشكل عام، وعندما توجب علي الحديث عن اللحظة الراهنة، سعيت أولا وقبل كل شيء إلى حث النساء على الامتناع عن أي مظاهرات والتصرف بناء على تعليمات لجنة الحزب».

لكن العاملات لم يكن في مزاج الانتظار. فرأى كايوروف “بدهشة” و”سخط” كيف تم تجاهل شعارات الحزب.

«لقد غضبت من سلوك المضربات. فقد كان من الواضح، في المقام الأول، أنهن تجاهلن القرارات التي اتخذتها لجنة المقاطعة التابعة للحزب، ومقترحاتي. كنت في الليلة السابقة قد دعوت النساء العاملات إلى التحلي بضبط النفس والانضباط – فإذا بنا الآن أمام هذا الإضراب»[2].

يؤكد تروتسكي في تاريخه أنه «بالنسبة إلى البلاشفة كانت الأشهر الأولى من الثورة فترة من الحيرة والتذبذب»[3]. وهناك الكثير من الأدلة لدعم هذا القول. كان أكثر القادة خبرة والأكثر نضجا من الناحية السياسية إما في السجن أو في سيبيريا أو في الخارج. وكانت قيادة بتروغراد، كما رأينا، غير مستعدة للمهام المطروحة عليها. كان المكتب الروسي مؤلفا من شليابنيكوف ومولوتوف وزالوتسكي، والذين كانوا على اتصال مع لينين من خلال المراسلات. يتذكر عضو لجنة مقاطعة فيبورغ، كايوروف، أنهم «لم يتلقوا على الإطلاق أي توجيهات من الأجهزة القيادية للحزب. كان أعضاء لجنة بتروغراد قد تعرضوا للاعتقال، ولم يتمكن الرفيق شليابنيكوف، الذي يمثل اللجنة المركزية، من إعطاء توجيهات للنشاط المستقبلي»[4].

بعد أن تجاوزوا الصدمة الأولى وبمجرد أن أصبحت آفاق النضال العمالي واضحة، بدأ البلاشفة في الرد بشكل صحيح، من خلال دعم الإضرابات والعمل على توسيع مداها. بدأ المزيد من العمال ينخرطون في حركة الإضرابات، وبحلول 25 فبراير وصل عدد المضربين في بتروغراد إلى 300.000. وبمبادرة من العاملات تحولت موجة الإضرابات تدريجيا إلى إضراب سياسي عام انخرط فيه عمال الترام والورشات الصغيرة والمطابع والمحلات التجارية. صدرت منشورات تحمل شعارات من قبيل: “فلننخرط جميعا في النضال! فلنخرج إلى الشوارع!”، “فلتسقط الملكية القيصرية!” “فلتسقط الحرب!”.

وتدريجيا بدأ البلاشفة في بتروغراد يتعافون من ارتباكهم الأول وانخرطوا في العمل. في اليوم الذي بدأ فيه إطلاق النار، تم إلقاء القبض على ثلاثة أعضاء في اللجنة المركزية البلشفية. فتولت اللجنة المحلية في فيبورغ مهمة قيادة العمل في بتروغراد. وابتداء من صباح يوم 27 فبراير تم إرسال جميع قوى منظمة بتروغراد إلى المصانع والثكنات. تم الاستيلاء على مخازن الأسلحة. نظم البلشفي ألكسييف العمال الشباب بمصنع بوتيلوف في مجموعة هجومية لمهاجمة رجال الشرطة والاستيلاء على أسلحتهم. وفي مساء يوم 27، اجتمعت القيادة البلشفية، التي كانت مشكلة أساسا من أعضاء لجنة فيبورغ، لمناقشة الإجراءات اللازمة لتحويل الإضراب العام إلى انتفاضة مسلحة. وصدر الأمر بالتآخي مع الجنود ونزع سلاح الشرطة ومداهمة مخازن الأسلحة والعتاد وتسليح العمال.

وبمجرد تعافيهم من عدم استعدادهم الأولي، اتخذ بلاشفة بتروغراد موقفا أكثر هجومية. نددوا بالاتفاقيات مع الليبراليين البرجوازيين، وانتقدوا دعاة الدفاع عن الوطن وطالبوا العمال بالتحرك الفوري. ذهب العمال إلى الثكنات وتآخوا مع الجنود وكانوا يستقبلون في كل مكان بتضامن حماسي. الجنود، الذين كان بعضهم من عمال بوتيلوف السابقين، كانوا في مزاج ثوري. وكانت القوات تأتي تباعا فوجا تلو آخر. نفس الشيء كان يحدث في موسكو. وجنبا إلى جنب مع العمال استولى الجنود المتمردون على الترسانة المركزية في بتروغراد. وسرعان ما صارت 40.000 بندقية و 30.000 مسدس تحت تصرف العمال. لم يكن انتقال الجيش إلى صف الثورة من قبيل الصدفة، بل كان نتيجة سنوات من الخبرة القاسية في الخنادق، وكذلك نتيجة الاستياء المتراكم للفلاح الروسي الذي طالت معاناته، والذي أوصلته الحرب إلى أقصى حدود تحمله. لكن لا يمكن إنكار الدور الذي قام به عدد هائل من الأبطال المجهولين.

الرواية التي عادة ما يحكيها المؤرخون البرجوازيون هي أنه بينما كانت ثورة أكتوبر مجرد “انقلاب”، فإن ثورة فبراير كانت حركة بدائية عفوية للجماهير. الاستنتاج الضمني لهذا الزعم هو أن ثورة أكتوبر كان شيئا سيئا، مؤامرة أقلية صغيرة، أدت بشكل حتمي إلى الديكتاتورية، في حين أن ثورة فبراير… حسنا، فباعتبارها ثورة فإنه لا ينبغي للمرء، بالطبع، أن يوافق على حدوثها، لكن النظام القيصري لم يكن جيدا، لذا فقد مثلت حركة ديمقراطية، حركة للأغلبية. هذين التصريحين كلاهما خاطئ. فثورة أكتوبر لم تكن انقلابا ولا مؤامرة، بل كانت تعبيرا منظما عن إرادة الأغلبية الساحقة التي ناضلت لمدة تسعة أشهر لإيجاد حل لمشاكلها من خلال سلطة السوفييتات. ومن ناحية أخرى فإن وصف ثورة فبراير بأنها مجرد حركة “عفوية”، تصور سطحي أحادي الجانب. لا يمكن للمرء أن يقول عنها ذلك إلا بمعنى أنه لم يقم أي حزب بتنظيمها. لكن هذا غير كاف. إذ أنه يعطي الانطباع بوجود نوع من النهوض الأعمى، مثل تدافع قطيع من الثيران بدون نظام أو سبب. إن استخدام كلمة “عفوية” في هذا السياق لا يفسر شيئا، وهو مجرد غطاء لعدم وجود تفسير، أو لما هو أسوأ من ذلك، أي احتقار “الجماهير الجاهلة” التي تعزى أفعالها إلى مجرد غريزة القطيع.

لا يمكن القول بأي حال من الأحوال إن الحزب البلشفي قد قاد ثورة فبراير. لكن ومع ذلك فإن هناك من قادها. أحد ما أخذ زمام المبادرة، ودعا إلى الإضرابات ونظم المظاهرات. يعرف كل عامل أنه حتى الإضراب لمدة ساعتين لا بد له من قيادة. هناك دائما شخص ما يأخذ زمام المبادرة. يتعين على شخص ما الدخول إلى مكتب المدير لتقديم مطالب العمال. وذلك الشخص يتم اختياره من طرف العمال. والاختيار ليس “عفويًا” (أي عرضيا). يختار العمال ممثليهم من بين الأكثر وعيا والأكثر شجاعة، يختارون الرجل أو المرأة الأكثر التزاما لتمثيلهم. ويكون لهذا الشخص تاريخ لم يبدأ بالأمس فقط. يكون أو تكون شخصا معروفا عند العمال بكونه يعرف جيدا وضعهم ومطالبهم. هؤلاء هم القادة الطبيعيون للطبقة العاملة. ويكونون غالبا، لكن ليس دائما، أعضاء في النقابات والأحزاب السياسية اليسارية. وفي حالة روسيا، كانوا أساسا من البلاشفة.

على الرغم من أن البلاشفة كانوا ما يزالون أقلية صغيرة من الناحية العددية، فإنهم بحلول ذلك الوقت كان لديهم مئات الأعضاء في المصانع الرئيسية: ما بين 75 و80 عضوا في مصنع ليسنر، وحوالي 30 عضوا في أحواض بناء السفن “روسو- بلطيق” و”إيجورسكي”، ومجموعات أصغر في مصانع أخرى. وفي مصنع بوتيلوف، بعماله البالغ عددهم 26.000، كان هناك 150 بلشفيا. كانت تلك أعداد صغيرة جدا، لكن وبفضل سياساتهم الطبقية الثورية الحازمة، فإن البلاشفة الأفراد لعبوا في أحداث فبراير دورا أكبر بكثير من قوتهم العددية. وبدون انتظار توجيهات من الحزب، تحرك العمال البلاشفة في المصانع والثكنات، حيث وفروا قيادة حاسمة للمضربين والمتظاهرين. لقد زودهم نشاطهم السياسي في الماضي برصيد سياسي وضعهم في قيادة الجماهير التي التفت حولهم.

ليس هناك شك في أن العمال البلاشفة الأفراد، الذين كانوا أكثر العناصر تنظيما وكفاحية في المصانع، قد لعبوا دورا رئيسيا في الثورة، حيث أعطوا لشعارات الحركة محتوى طبقيا ثوريا وأعطوها شكلا منظما، وذلك دون انتظار أوامر القيادة البلشفية. لم يكونوا قد قرأوا الكثير من النظرية، وفي معظم الحالات كانوا بالكاد يتذكرون الشعارات الحزبية الأساسية حول الحرب والأرض والجمهورية ويوم العمل من ثماني ساعات. لكن هذا القدر المحدود من الأفكار، المرتبط بالغريزة الطبقية الأساسية والروح الثورية، كان كافيا لمنحهم تفوقا هائلا وجعلهم يتحولون إلى عمالقة في أماكن عملهم وفي الشوارع. لقد عاد المحرض الحزبي الآن إلى وسطه الطبيعي.

كان هؤلاء القادة المحليون قادرين بما يكفي على قيادة العمال للإطاحة بالقيصر، لكن ليس أكثر من ذلك. ومن أجل المضي قدما، كانوا في حاجة إلى توجيهات حازمة وواضحة من طرف قيادة الحزب. لكن القيادة البلشفية في بيترسبورغ، التي كانت ما تزال متمسكة بشعار “الديكتاتورية الديمقراطية للبروليتاريا والفلاحين”، الخاطئ والمتجاوز، لم يكن لديها أي منظور لمساعدة الطبقة العاملة على حسم السلطة. حتى أكثرهم راديكالية لم يكن ينظر إلى أبعد من إقامة جمهورية برجوازية. وبالتالي فإن الإطاحة بالقيصر تركتهم في حيرة من أمرهم. وهكذا ففي حين أن الدور القيادي في انتفاضة فبراير لعبه العمال البلاشفة أساسا، فإن قادة البلاشفة في بتروغراد فقدوا المبادرة نتيجة ترددهم. لقد أثبت العمال والقواعد، كما كرر لينين في كثير من الأحيان، أنهم أكثر ثورية بكثير من الحزب الأكثر ثورية.

في الثكنات، كما الحال في المصانع، كان العديد من “القادة الطبيعيين” للجنود من البلاشفة الذين عادوا إلى وسطهم الطبيعي، مثل عمال بوتيلوف السابقين الذين كانوا قد انضموا إلى الجيش خلال الحرب. كانت الأقسام الرئيسية الأكثر تقدما بين صفوف الحرس تحت تأثير البلاشفة. لم تمر دروس السنوات سدى. كان معظم هؤلاء من البلاشفة الذين تدربوا في المدرسة الثورية لسنوات 1905 و 1912-1914. لكن الجماهير كانت مختلفة تماما. لقد غيرت الحرب تكوين العاملين في المصانع، لكونها جرت إلى المصانع عددا كبيرا من الفئات المتخلفة وغير المنظمة والتي تفتقر إلى الخبرة. لذلك فإنه لكي تستخلص تلك الجماهير، المشكلة من عشرات الملايين، جميع الاستنتاجات الضرورية، كان من الضروري لها المرور من تجربة أخرى. من الطبيعي أن يبحث الناس عن الطريق الأسهل والأقل مقاومة، حتى خلال الثورة. ولهذا السبب بالذات دائما ما تتشبث الجماهير بعناد بمنظماتها الجماهيرية التقليدية. إن تفكير الجماهير اقتصادي للغاية: لماذا نتخلص من أداة قديمة قبل محاولة استعمالها؟ كان الاختلاف الوحيد الذي يميز روسيا في عام 1917 عن بقية البلدان هو أن الجماهير العريضة لم يكن لديها أي حزب معترف به ولا نقابة عمالية جماهيرية، بل كانت لديها فقط فكرة غامضة عن “الاشتراكيين الديمقراطيين”. صحيح أن أكثر العمال تقدما كانوا بلاشفة، وقد كانوا في الفترة التي سبقت الحرب مباشرة يشكلون غالبية العمال، المنظمين منهم على الأقل. لكن الجماهير التي كانت قد استيقظت للتو على الحياة السياسية لم تكن تستطيع بعد التمييز بين اليسار واليمين. لم يكونوا مهتمين بعد بالتفاصيل البرنامجية، بل تحركوا بفعل رغبة عامة في التغيير. لقد كانوا قادرين على القيام بالثورة لكنهم لم يكونوا قادرين على منع السلطة من الانزلاق من بين أيديهم. كانت ممارساتهم أكثر تقدما من وعيهم. لقد تطلب الأمر المرور من تجربة الأحداث العظيمة إضافة إلى العمل الصبور من جانب البلاشفة لرفع وعي الجماهير إلى المستوى الذي يتطلبه الوضع الحقيقي.

وهذا ما يفسر أيضا لماذا لم تكن الحدود التي تفصل بين العمال البلاشفة والعمال المناشفة واضحة تماما. فجأة بدت الاختلافات بينهم أقل أهمية. ألم يدافع كلا التياران عن جمهورية برجوازية ديموقراطية؟ وعلى أي حال فقد كانت هناك رغبة قوية في توحيد الصفوف نتيجة للثورة نفسها. لقد ناضل العمال المناشفة، الذين جرفتهم الموجة الثورية، جنبا إلى جنب مع البلاشفة. وقد كانت فكرة الوحدة الميدانية بين جميع المجموعات الثورية واسعة الانتشار في ذلك الوقت. على مستوى القواعد كان العمال البلاشفة والمناشفة وحتى الاشتراكيين الثوريين يتعاونون ميدانيا دون أية صعوبات. بل في العديد من المناطق اندمجت المجموعات الاشتراكية الديمقراطية بشكل تلقائي. هذه الحقيقة مهمة للغاية. إنها توضح مدى قوة فكرة الوحدة داخل الطبقة العاملة كما توضح مدى تعقيد مهمة بناء حزب ثوري.

على الرغم من أن البلاشفة كانوا قد نجحوا خلال سنوات 1912-1914 في كسب أكثر من أربعة أخماس العمال المنظمين في روسيا، وعلى الرغم من أن المناشفة لم يلعبوا أي دور خلال فترة الحرب، فإنه خلال أيام فبراير- أبريل العاصفة، اندمج التياران مرة أخرى في منظمة واحدة في كل المقاطعات، باستثناء موسكو وبتروغراد. بل إنهم في الواقع استمروا متحدين، في العديد من المناطق، حتى اندلاع ثورة أكتوبر. هذا دليل على قوة الراية القديمة للحزب الاشتراكي الديمقراطي العمالي الروسي، على الرغم من كل ما حدث سابقا. حتى في روسيا عام 1917، لم يحقق كفاح لينين من أجل فصل التيار الثوري الحقيقي النجاح بسهولة أو بضربة واحدة. في روسيا، كما هو الحال في كل بلد آخر، لم تنزل القوات البلشفية والأممية الشيوعية المستقبلية من السماء، بل تشكلت في خضم الصراع بين التيارات المتناقضة داخل المنظمات التقليدية للطبقة العاملة (الاشتراكية الديمقراطية) وأسفرت، بعد فترة طويلة من الصراع مع العديد من التقلبات، عن حدوث الانشقاق وتشكيل حزب جديد. هذه السيرورة، التي حاولنا شرح خطوطها العريضة في كتابنا هذا، لم تنتهِ إلا في أكتوبر 1917، عندما تمكن الجناح الثوري أخيرا من كسب أغلبية حاسمة داخل السوفييتات وقاد الطبقة العاملة إلى الاستيلاء على السلطة.

هوامش:

[1] : N. Sukhanov, Zapiski o revolutsii, vol. 1, p. 50 and p. 94.

[2]: M. Liebman, Leninism Under Lenin, pp. 117-118.

[3]: L. Trotsky, The History of the Russian Revolution, p. 300.

[4]: M. Liebman, Leninism Under Lenin, p. 117.