الذكرى الثلاثون لسقوط جدار برلين

قبل ثلاثين عاما، في مثل هذا اليوم من سنة 1989، انهار جدار برلين، فغمر البرجوازية في الغرب شعور بالفرح، والابتهاج لـ “سقوط الشيوعية”. لكن بعد ثلاثين عاما على ذلك الحدث صارت الأشياء تبدو جد مختلفة، مع دخول الرأسمالية في أشد أزماتها حدة منذ 1929. والآن، يتحول الملايين، خاصة الشباب، مرة أخرى نحو أفكار الاشتراكية والماركسية، أفكار ماركس وإنجلس ولينين وتروتسكي، وليس أفكار النظام البيروقراطي الستاليني. بهذه المناسبة نعير نشر مقال آلان وودز الذي كتب خلال الذكرى العشرون لسقوط جدار برلين، ويشرح فيه الخلفية الحقيقية للاحداث التي أدت إلى سقوط الجدار وانهيار النظام الستاليني.

[Source]

تعتبر سنة 2009 سنة الكثير من الذكريات، بما فيها ذكرى اغتيال روزا ليكسمبورغ وليبكنخت، وذكرى تأسيس الأممية الشيوعية، وذكرى كومونة أستورياس. وطبعا لا نجد لأي من هذه الذكريات أي صدى في وسائل الإعلام الرأسمالية. لكن هناك ذكرى لا يمكنهم نسيانها، وهي أنه: يوم التاسع من نوفمبر، سنة 1989، تم فتح الحدود الفاصلة بين ألمانيا الغربية وألمانيا الشرقية.

لقد دخل انهيار جدار برلين إلى التاريخ باعتباره مرادفا لانهيار “الشيوعية”. وقد شهدنا خلال العشرين سنة الماضية، ومنذ تلك الأحداث، هجوما إيديولوجيا غير مسبوق ضد الأفكار الماركسية على الصعيد العالمي. وقد اعتبر ذلك دليلا حاسما على موت الشيوعية، والاشتراكية، والماركسية. بل لم يمر وقت طويل منذ أن كان يصور على أنه نهاية التاريخ. لكن منذ ذلك الحين حتى الآن دارت عقارب التاريخ عدة مرات.

من الآن فصاعدا صار الزعم القائل بأن الرأسمالية هي البديل الوحيد أمام الإنسانية مجرد هراء. فالحقيقة مختلفة جدا. إذ في الذكرى العشرين لانهيار الستالينية، تجد الرأسمالية نفسها غارقة في أعمق أزمة شهدتها منذ أزمة 1929. حيث يواجه ملايين البشر مستقبلا ينذر بالبطالة والفقر والاقتطاعات والتقشف.

وقد احتدت الحملة المشئومة المعادية للشيوعية خلال هذه الفترة، وليس من الصعب فهم سبب ذلك. إن الأزمة العالمية للرأسمالية تعطي دفعة لاندلاع مسائلة عامة لـ “اقتصاد السوق”. وبدأنا نشهد انتعاشا للاهتمام بالأفكار الماركسية، وهو الشيء الذي يخيف البرجوازية. إن حملة الافتراءات الجديدة انعكاس لهذا الخوف.

صورة كاريكاتورية عن الاشتراكية

إن ما سقط في روسيا وأوربا الشرقية لم يكن الشيوعية أو الاشتراكية، كما كان ماركس أو لينين يفهمانهما، بل مجرد كاريكاتور بيروقراطي وشمولي عنها. سبق للينين أن شرح أن الحركة نحو الاشتراكية تحتاج إلى الرقابة الديمقراطية على الصناعة والمجتمع والدولة من طرف البروليتاريا. إن الاشتراكية الحقيقية تتناقض مع حكم نخبة بيروقراطية ذات امتيازات سيصاحبه بالضرورة فساد هائل والمحسوبية والتبذير وسوء الإدارة والفوضى.

لقد حقق الاقتصاد المخطط في الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية نتائج باهرة في مجالات الصناعة والعلوم والصحة والتعليم. لكن، وكما سبق لتروتسكي أن توقع منذ 1936، انتهى النظام البيروقراطي إلى تدمير أسس الاقتصاد المؤمم والمخطط ومهد الطريق لانهياره والعودة إلى الرأسمالية.

خلال سنوات الثمانينات، كان الاتحاد السوفييتي يمتلك عددا من العلماء أكثر مما كانت تمتلكه كل من الولايات المتحدة واليابان وبريطانيا وألمانيا معا، لكنه بالرغم من ذلك كان عاجزا عن أن يحقق نفس النتائج التي كانت البلدان الغربية تحققها. إذ تأخر كثيرا عنها فيما يتعلق بالحقلين الحيويين: الإنتاجية ومستويات العيش. لقد كان السبب الرئيسي وراء ذلك هو الثقل الرهيب على الاقتصاد السوفييتي الذي شكلته البيروقراطية، أي ملايين المسئولين السوفياتيين الجشعين والفاسدين الذين كانوا يسيرون الاتحاد السوفييتي دون الخضوع لأية رقابة من جانب الطبقة العاملة.

وقد أدى حكم البيروقراطية الخانق في النهاية إلى حدوث هبوط حاد في معدل النمو في الاتحاد السوفياتي. ونتيجة لذلك، صار الاتحاد السوفييتي يتراجع أمام الغرب. وقد فرضت تكاليف الحفاظ على مستويات عالية من الإنفاق العسكري، وتكاليف الإبقاء على السيطرة على أوروبا الشرقية، مزيدا من الضغوط على الاقتصاد السوفياتي. إن ظهور الزعيم السوفييتي الجديد، ميخائيل غورباتشوف، في عام 1985، كان مؤشرا على حدوث تحول كبير في الوضع.

لقد كان غورباتشوف يمثل ذلك الجناح من البيروقراطية الذي يؤيد القيام بالإصلاحات من فوق من أجل الحفاظ على النظام بأسره. إلا أن الوضع ساء أكثر في ظله. وقد قاد هذا بالضرورة إلى حدوث أزمة، كان لديها تأثير فوري على أوربا الشرقية، حيث تفاقمت أزمة الستالينية بفعل المسألة القومية.

الغليان في أوربا الشرقية

سنة 1989، اجتاحت موجة من التمرد عواصم أوربا الشرقية الواحدة منها تلو الأخرى، مما تسبب في إسقاط تلك الأنظمة الستالينية تباعا. في رومانيا تم إسقاط تشاوسيسكو بثورة وأرسل إلى ساحة الإعدام. وقد كانت الأزمة في روسيا من بين الأسباب الرئيسية لانتصار تلك الانتفاضات الشعبية. إذ في الماضي عملت موسكو على إرسال الجيش الأحمر لسحق الانتفاضة في ألمانيا الشرقية (1953)، وفي هنغاريا (1956) وفي تشيكوسلوفاكيا (1968). إلا أن غورباتشوف استوعب أن هذا الخيار لم يعد ممكنا.

لقد كانت الإضرابات الجماهيرية التي شهدتها بولندا، خلال النصف الأول من الثمانينات، تعبيرا مبكرا عن المأزق الذي يوجد فيه النظام. لو أن تلك الحركة الرائعة كانت تحت قيادة حزب ماركسي حقيقي، لكان في مقدورها تمهيد الطريق لاندلاع ثورة سياسية، ليس في بولندا وحدها بل عبر أوروبا الشرقية كلها. لكن وفي ظل غياب مثل هذه القيادة، تم تحويل مسار الحركة من طرف عناصر معادية للثورة، من قبيل ليش فاليسا.

في البداية حاول الستالينيون البولنديون إخماد الحركة بواسطة القمع، لكنهم في النهاية اضطروا إلى القبول بشرعية نقابة التضامن والسماح لها بالمشاركة في الانتخابات البرلمانية، يوم الرابع من يونيو سنة 1989. وما تلا ذلك كان زلزالا سياسيا. فقد فاز مرشحو التضامن بجميع المقاعد التي كان مسموحا لهم بالترشح إليها. وقد كان لهذا تأثير عميق على البلدان المجاورة.

إذ في المجر، وفي خطوة استباقية لما سوف يحدث في المستقبل، أقيل يانوس كادار من منصب الأمين العام للحزب الشيوعي، سنة 1988، وتبنى النظام “حزمة من الإجراءات الديمقراطية”، بما فيها إجراء الانتخابات. تشيكوسلوفاكيا بدورها سرعان ما تأثرت، وبحلول العشرين من نوفمبر 1989، انتقل عدد المحتجين المجتمعين في براغ من 200,000، في اليوم السابق، إلى نصف مليون محتج. كما تم تنظيم إضراب عام من ساعتين، يوم 27 نوفمبر.

شكلت هذه الأحداث الدرامية نقطة تحول حاسمة في التاريخ. فلما يقرب من نصف قرن، ومنذ الحرب العالمية الثانية، حكم الستالينيون أوربا الشرقية بيد من حديد. حيث نظام الحزب الوحيد الرهيب المدعوم بأجهزة قمعية جبارة، وجيش، وبوليس، وبوليس سري، ومخبرين متواجدين في كل بناية وكل مدرسة وكل كلية وكل مصنع. كان يبدو من شبه المستحيل أن تنتصر الانتفاضات الشعبية ضد قوة مثل هذه الدولة الشمولية وبوليسها السري. لكن عندما دقت ساعة الحقيقة تبين أن هذه الأنظمة، التي كانت تبدو وكأنها لا تقهر، مجرد عملاق بأقدام من صلصال.

ألمانيا الشرقية

من بين جميع أنظمة أوروبا الشرقية الأخرى، كانت جمهورية ألمانيا الديمقراطية البلد الأكثر تطورا من الناحية الصناعية والتكنولوجية. وكان مستوى العيش فيها جيدا رغم أنه لم يكن يساوي مثيله في أوربا الغربية. كان هناك تشغيل كامل، وكان الجميع يمتلك الحق في الحصول على سكن رخيص الثمن وخدمات طبية وتعليم ذو جودة عالية.

لكن حكم نظام الحزب الوحيد الشمولي، ببوليسه السري المتواجد في كل مكان (الستاسي السيء الذكر) وجيش المخبرين، وفساد المسئولين، وامتيازات النخبة الحاكمة، كانت كلها مصدرا للسخط. قبل تشييد جدار برلين سنة 1961، هاجر حوالي 2,5 مليون ألماني شرقي إلى ألمانيا الغربية، وقد هاجر العديد منهم عبر الحدود بين برلين الشرقية والغربية. ومن أجل وقف هذا النزيف عمل النظام على تشييد الجدار.

لقد نجح الجدار وغيره من التحصينات، التي بنيت على طول الحدود المشتركة بين ألمانيا الشرقية والغربية، البالغ طولها 1,380 كيلومترا، في وقف النزوح. ربما يكون هذا الإجراء قد ساعد على تعزيز النمو الاقتصادي في ألمانيا الشرقية، لكنه تسبب في معاناة ومصاعب للأسر التي قسمت وشكل مادة دعائية في يد الغرب، الذي صوره بأنه مثال آخر على “الطغيان الشيوعي”.

مع نهاية سنوات الثمانينات انفجر الوضع في جمهورية ألمانيا الديمقراطية. وقد كان الستاليني العجوز إيريك هونيكر معارضا حازما للإصلاحات. بل إن نظامه حظر تداول المنشورات “التخريبية” القادمة من الاتحاد السوفييتي. يومي 06 و07 أكتوبر، زار غورباتشوف ألمانيا الشرقية، بمناسبة الذكرى الأربعين لنشوء جمهورية ألمانيا الديمقراطية، ومارس ضغوطا على القيادة الألمانية من أجل أن تقبل بالإصلاحات. وقد نقل عنه قوله: ” Wer zu spät kommt, den bestraft das Leben” (الذي يأتي متأخرا يؤدي حياته ثمنا).

في تلك الأثناء كان شعب ألمانيا الشرقية قد صار متمردا بشكل صريح. وبدأت حركات المعارضة تنمو بسرعة الفطر، بما في ذلك حركة Neues Forum (المنتدى الجديد) وحركة Demokratischer Aufbruch (الصحوة الديمقراطية)، و Demokratie Jetzt (الديمقراطية الآن). وقد تم إنشاء أكبر حركة من طرف كنيسة بروتستانية في لايبزيغ، حيث كان المواطنون يحتشدون كل يوم إثنين خارجها ويطالبون بالتغيير في ألمانيا الشرقية. إلا أن هذه الحركة كانت عفوية وساذجة من الناحية السياسية.

آنذاك بدأت موجة عارمة من المظاهرات الجماهيرية تجتاح مدن ألمانيا الشرقية، واكتست قوة خاصة في لايبزيغ. وقد التحق مئات الآلاف من الأشخاص بتلك المظاهرات. فدخل النظام في أزمة أدت إلى إزاحة القائد الستاليني المتشدد، إيريك هونيكر، عن السلطة، واستقالة الحكومة كلها. وتحت ضغط الحركة الجماهيرية دعى الزعيم الجديد للحزب، إيغون كرينز، إلى تنظيم انتخابات ديمقراطية. لكن الإصلاحات التي اقترحها النظام كانت هزيلة جدا ومتأخرة جدا.

قرر القادة “الشيوعيون” اللجوء إلى استعمال القوة إلا أنهم تراجعوا عن قرارهم (بضغط من غورباتشوف). فبدأت الأمور آنذاك تخرج عن السيطرة. وفي الأيام التالية صار من الممكن الحديث عن الفوضى: بقيت الدكاكين مفتوحة طوال ساعات اليوم وصار بالإمكان استخدام جواز السفر الألماني الشرقي كتذكرة للنقل العمومي. وعلى حد تعبير أحد الملاحظين: “هناك، على العموم، من الاستثناءات أكثر مما هناك من القواعد في هذه الأيام”. كانت السلطة في الشارع لكن لم يكن هناك أحد ليأخذها.

وأمام هذا التمرد الجماهيري، تهاوت الدولة الألمانية الشرقية، التي كانت تبدو قوية لا تقهر، مثل بيت من ورق. يوم التاسع من نوفمبر، سنة 1989، وبعد عدة أسابيع من الاضطرابات الجماهيرية، أعلنت الحكومة الألمانية الشرقية أنه صار بإمكان مواطني ألمانيا الديمقراطية زيارة ألمانيا الغربية وبرلين الغربية. كانت هذه إشارة لاندلاع انفجار جماهيري جديد. وبشكل عفوي ارتقت حشود من المواطنين الألمانيين الشرقيين السور وعبروه والتحق بهم الألمان الغربيون من الجهة الأخرى.

الثورة المضادة

لقد كان جدار برلين رمزا لكل ما هو ممقوت في النظام الألماني الشرقي. وقد بدأ تحطيم الجدار بشكل عفوي تماما. وخلال الأسابيع قليلة التالية تم تحطيم أجزاء منه. وفيما بعد تم استعمال آليات من أجل إزالة السور كله تقريبا. وقد ساد جو احتفالي، ومزاج من السعادة، كان الأمر أشبه بالاحتفال منه بالثورة. لكن هذا ينطبق على المراحل الأولى من كل ثورة عظيمة، منذ 1789.

في شهر نوفمبر، من سنة 1989، غمر مواطني ألمانيا الشرقية شعور بالفرح، وإحساس بالتحرر، مصاحب بشعور عام بالافتخار. كان الوضع كما لو أن أمة بأسرها وقعت تحت نشوة الخمر، ومن ثم كانت منفتحة على جميع الاقتراحات ومستعدة للقيام بتحركات مفاجئة. لقد كان إسقاط النظام أسهل مما كان بإمكان أي شخص أن يتخيله. لكن وبعدما تم إسقاطه، ما الذي يجب أن يوضع محله؟ لقد كانت الجماهير التي أسقطت النظام القديم، تعرف جيدا جدا ما لا تريده، إلا أنها لم تكن تعرف بشكل واضح ما الذي تريده، ولم يكن هناك من يقدم مخرجا.

لقد كانت كل الشروط الموضوعية لنجاح ثورة سياسية متوفرة آنذاك. والأغلبية الساحقة من الجماهير لم تكن تريد إعادة الرأسمالية. لقد كانت تريد الاشتراكية، لكنها كانت تريد اشتراكية بحقوق ديمقراطية، وبدون الستاسي [جهاز البوليس السري- المترجم-]، وبدون البيروقراطيين الفاسدين، وبدون دكتاتورية دولة الحزب الوحيد. لو توفرت آنذاك قيادة ماركسية حقيقية، لكان ذلك أدى إلى اندلاع ثورة سياسية وإقامة دولة الديمقراطية العمالية.

لكن سقوط جدار برلين لم يؤدي إلى اندلاع ثورة سياسية، بل إلى انتصار الثورة المضادة في شكل الوحدة مع ألمانيا الغربية. إن هذا المطلب لم يظهر بشكل بارز عند بداية المظاهرات. لكن ونظرا لغياب برنامج واضح من جانب القيادة، تم إدخاله إلى الساحة وصار يحتل تدريجيا مركز الوسط.

لم يكن لدا أغلب قادة المعارضة أي برنامج واضح، ولا أية سياسة واضحة ولا أي منظور، ما عدا مطلب فضفاض حول الديمقراطية والحقوق المدنية. لكن السياسة، مثل الطبيعة، لا تقبل الفراغ. وبالتالي فإن تواجد دولة رأسمالية قوية ومزدهرة، على الحدود مع ألمانيا الشرقية، لعب دورا حاسما في ملئ ذلك الفراغ.

لقد كان المستشار الألماني الغربي هيلموت كول ممثلا عنيفا للإمبريالية. وقد لجأ إلى أحط طرق الإفساد من أجل إقناع شعب ألمانيا الشرقية بالتوحيد الفوري للألمانيتين، ومنحهم الحق في استبدال عملتهم الأوستمارك (Ostmarks) بالمارك الألماني، على قاعدة واحد مقابل واحد. لكن ما لم يقله كول لشعب ألمانيا الشرقية هو أن التوحيد لن يعني حصولهم على نفس مستويات عيش ألمانيا الغربية.

وخلال شهر يوليوز، من سنة 1990، تمت إزالة آخر عائق أمام توحيد ألمانيا، عندما وافق غورباتشوف على سحب الاعتراض السوفييتي على التحاق ألمانيا الموحدة بالناتو، مقابل مساعدات اقتصادية كبيرة من جانب ألمانيا للاتحاد السوفييتي. فتم التوحيد رسميا، يوم الثالث من أكتوبر، سنة 1990.

لقد تعرضت الجماهير للخداع

تعرض شعب ألمانيا الديمقراطية للخداع. لم يقل لهم أحد إن تطبيق اقتصاد السوق سوف يعني البطالة الجماهيرية، وإغلاقات المصانع، والتدمير الفعلي لأجزاء واسعة من القاعدة الصناعية الألمانية الديمقراطية، أو إن ذلك سيؤدي إلى ارتفاع عام في الأسعار، وإحباط جزء من الشباب، وإنهم سيعاملون باحتقار كمواطنين من الدرجة الثانية داخل بلدهم. لم يتم إخبارهم بكل هذه الأشياء، لكنهم توصلوا إليها بتجربتهم المريرة الخاصة.

عجّل التوحيد بحدوث انهيار كارثي للإنتاج الخام الحقيقي لألمانيا الشرقية، بانهيار وصل إلى 15,6 % سنة 1990، و22,7 % سنة 1991، ثم وصل إلى الثلث. تم فقدان ملايين مناصب الشغل. كما أن العديد من مصانع ألمانيا الشرقية تم إغلاقها بعد أن اشتريت من قبل المنافسين الغربيين. وابتداء من سنة 1992، شهدت ألمانيا الشرقية أربع سنوات من الانتعاش، لكن هذا أعقبه الركود.

قبل الحرب العالمية الثانية، كان الناتج الخام لألمانيا الشرقية أعلى قليلا من متوسط الناتج الخام الألماني الغربي، كما أن ألمانيا الشرقية آنذاك كانت أكثر ثراء من غيرها من بلدان أوربا الشرقية الأخرى. لكن بعد عشرين سنة على التوحيد ما يزال مستوى العيش في ألمانيا الشرقية متخلفا عن نظيره في الغرب. ويبلغ معدل البطالة ضعف المتوسط الغربي، كما أن الأجور مننخفضة بشكل واضح.

كانت البطالة في جمهورية ألمانيا الديمقراطية غير معروفة عمليا. لكن مناصب الشغل تراجعت بـ 3,3 مليون منصب، ما بين سنوات 1989 و1992. ولم يرتفع معدل الناتج الخام الألماني الشرقي إلا بنسبة هزيلة عن مستواه سنة 1989، وصارت العمالة تساوي 60 % من معدلها سنة 1989. وفي الوقت الحالي، تساوي البطالة في ألمانيا ككل 8 %، لكن الرقم المسجل في ألمانيا الشرقية هو 12,3 %. إلا أن بعض التقديرات الغير رسمية تقول إنها أعلى من 20 %، بل إنها بين صفوف الشباب تساوي 50 %.

والنساء اللائي كن قد حققن درجة عالية من المساواة في جمهورية ألمانيا الديمقراطية، مثلهن مثل بقية النساء في أوربا الشرقية، هن من عانين بشكل أكبر. وتشير لوحة البيانات الاجتماعية والاقتصادية الألمانية لمنتصف التسعينات أن 15 % من النساء الألمانيات الشرقيات و10 % من الرجال عاطلون عن العمل.

خلال شهر يوليوز من سنة 1990، وعد “مستشار الوحدة”، هلموت كول الألمان الشرقيين قائلا: “بفضل المجهود المشترك سنتمكن سريعا من تحويل [المناطق الألمانية الشرقية] ميكلنبورغ- فوربوميرن وساكسون- أنهالت، وبراندتبرغ، وساكسون وتهورينغيا إلى مناطق مزدهرة.” لكن بعد خمسة عشر سنة، اعترف تقرير لقناة البي بي سي أن “الإحصائيات كئيبة”، وبالرغم من ضخ ما يقارب 1,25 تريليون أورو (843 مليار جنيه استرليني، أو 1,550 مليار دولار)، ما تزال نسبة البطالة في ألمانيا الشرقية 18,6 %، سنة 2005 (قبل الركود الحالي) وهي في العديد من المناطق وصلت أكثر من 25 %.

مدينة هال بساكسون- أنهالت، التي كانت في الماضي مركزا مهما للصناعات الكيماوية ويعيش بها أكثر من 315,000 شخص، فقدت الآن حوالي خمس ساكنتها. قبل سقوط جدار برلين سنة 1989، كان “المثلث الكيماوي” ليونا- هال- بيترفيلد يوفر مناصب شغل لـ 100,000 عامل، مقابل 10,000 عامل اليوم. كما كانت جيرا تمتلك مصانع هائلة للنسيج والصناعات العسكرية، وبعض مناجم الأورانيوم. كل هذا تبخر الآن، وقد حدث نفس الشيء لأغلبية الصناعات العمومية الأخرى.

ارتفع الناتج الخام لألمانيا الشرقية من 49 %، بالنسبة لنظيره الألماني الغربي سنة 1991، إلى 66 % سنة 1995، ومنذ تلك الفترة توقف عن التقدم. كان الاقتصاد ينمو بحوالي 5,5 % سنويا، لكنه لم يكن يخلق العديد من مناصب الشغل. ونتيجة لذلك بدأت ألمانيا الشرقية تصير مهجورة. منذ التوحيد هاجر من ألمانيا الشرقية حوالي 1,4 مليون شخص نحو الغرب، أغلبهم من الشباب والمتعلمين. ولقد أدت الهجرة وتراجع الخصوبة إلى تناقص ساكنة ألمانيا الشرقية كل سنة منذ التوحيد.

من سخرية التاريخ أنه، وبعد عشرين سنة على الوحدة، ما يزال الناس يغادرون ألمانيا الشرقية، ليس من أجل الفرار من قبضة الستاسي، بل للفرار من البطالة. بعض الألمانيين الشرقيين تمكنوا طبعا من تحقيق حياة جيدة، يقول تقرير البي بي سي: “منازل برجوازية كبيرة، بقيت العديد منها حتى عام 1989 مخترقة برصاصات الحرب العالمية الثانية، قد أعيدت الآن إلى مجدها القديم.”

عودة الماركسية

مثله مثل العديد من الألمان الشرقيين، قال رالف وولف إنه شعر بالسعادة إزاء سقوط جدار برلين، ورؤية الرأسمالية تحل محل الشيوعية. لكن النشوة لم تدم طويلا. وأضاف قائلا: “لقد استغرق الأمر بضعة أسابيع فقط للتحقق مما يعنيه اقتصاد السوق الحر. إنها المادية الجامحة والاستغلال البشع. حيث يضيع الجنس البشري. لم تكن لدينا وسائل الرفاهية، لكن الشيوعية كانت لديها الكثير من الحسنات،” (تقرير رويترز).

وقد صرح هانز- جورغن شنايدر، مهندس يبلغ من العمر 49 سنة، وعاطل عن العمل منذ يناير 2004، ومنذ ذلك الحين قام بإرسال 286 طلبا للعمل لكن بدون جدوى، قائلا: “لا يمكن لاقتصاد السوق أن يحل مشاكلنا”، وأضاف: “إن الشركات الكبرى لا تعمل سوى على الاستيلاء على الأرباح دون تحمل أية مسئولية.” وهو ليس وحده في هذا، إذ أن استطلاعا للرأي أجرته مجلة دير شبيغل أوضح أن 73 % من الألمان الشرقيين يعتقدون أن انتقاد كارل ماركس للرأسمالية ما يزال صحيحا.

كما أن استطلاعا آخر للرأي، نشر في شهر أكتوبر، من سنة 2008، في مجلة Super Illus أكد أن 52% من سكان ألمانيا الشرقية يعتقدون أن اقتصاد السوق “غير ملائم” و”مأزوم”. كما أن 43 % من المستجوبين يفضلون نظاما اقتصاديا اشتراكيا، لأنه “يحمي الناس البسطاء من الأزمات المالية وغيرها من المظالم”. ويرفض 55 % منهم خطة إنقاذ الأبناك من جانب الدولة.

ومن بين الشباب (ما بين 18 حتى 29 سنة)، الذين لم يعيشوا أبدا في جمهورية ألمانيا الديمقراطية، أو الذين لم يعيشوا في ظلها سوى فترة قصيرة، يريد 51 % منهم الاشتراكية. والرقم المسجل بين من يبلغون من العمر 30 حتى 49 سنة هو 35 %. أما فيما يخص من هم فوق الخمسين عاما فالنسبة هي 46 %. وقد تأكدت صحة هذه الأرقام من خلال استجوابات مع عشرات الألمان الشرقيين البسطاء. قال توماس ببيفيت، وهو عامل من شرق برلين، يبلغ من العمر 46 سنة: “كنا نقرأ عن “أهوال الرأسمالية” في المدرسة، وقد تبين أنها حقيقية. إن كارل ماركس كان محقا.”. وشكل Das Kapital (الرأسمال) الكتاب الأكثر مبيعا عند دار النشر كارل- ديتز- فيرلاغ، حيث بيعت منه أكثر من 1500 نسخة سنة 2008، أي ثلاثة أضعاف ما بيع سنة 2007 ومائة ضعف ما سجل منذ سنة 1990.

وصرح المدير المنتدب جورن شيوترامف لرويتر قائلا: ” كان الجميع يعتقدون أنه لم يعد هناك أبدا أي طلب على كتاب الرأسمال، لكن الآن حتى المصرفيون ومديرو الشركات صارو يقرأون الرأسمال في محاولة منهم لفهم ما الذي تسببوا فيه لنا”.

لقد أقنعت أزمة الرأسمالية العديد من الألمان، لا سواء الشرقيين منهم أو الغربيين، بأن النظام الرأسمالي أفلس. وقال هيرمان هيبل، الحداد المتقاعد البالغ من العمر 76 سنة: “كنت أعتقد أن الشيوعية سيئة، لكن تبين لي أن الرأسمالية أسوء. السوق الحرة قاسية جدا. إن الرأسماليين يريدون اعتصار الأرباح أكثر فأكثر.”، وأضاف: “كنت أعيش حياة جميلة قبل سقوط الجدار، لم يكن أحد يهتم للمال لأن المال لم يكن في الواقع ضروريا. كما أن العمل كان متوفرا للمرء حتى وإن لم يكن يريده. لم تكن فكرة الشيوعية سيئة.”

وقالت مونيكا ويبر، الموظفة البالغة من العمر 46 سنة: “لا أعتقد أن الرأسمالية هي النظام الأفضل بالنسبة لنا. إن توزيع الثروة غير عادل، ونحن نشهد ذلك الآن. وسيفرض على الناس البسطاء أمثالي أن يدفعوا ثمن الفوضى المالية عبر الرفع من الضرائب، وذلك بسبب أصحاب الأبناك الجشعين.”

والشيء الأكثر تعبيرا أكثر حتى من هذا الاستطلاع هو نتائج الانتخابات الألمانية. فقد سجل الحزب اليساري تقدما هاما، حيث حصل على حوالي 30 % من الأصوات في الشرق. ولم تعد الأحزاب البرجوازية تحصل الآن في الشرق على الأغلبية. إن ما يبينه هذا هو أن شعب ألمانيا الشرقية لا يريد الرأسمالية بل يريد الاشتراكية، إنهم لا يريدون تلك الصورة الكاريكاتورية الشمولية البيروقراطية عن الاشتراكية، بل اشتراكية ديمقراطية حقيقية، اشتراكية ماركس وإنجلز وليبكنخت وليكسمبورغ.