بيان التيار الماركسي الأممي حول الأزمة الاقتصادية: فلنجعل الرأسماليين يؤدون الثمن! الجزء الأول

للأزمة التي دخلت فيها الرأسمالية على الصعيد العالمي أثر عميق على مستويات العيش الحقيقية لملايير العمال في العالم بأسره. ويصاحب ذلك تنامي للوعي بين العمال والشباب بأن هناك خطأ ما في هذا النظام، وبأنه لا يمكن للبشرية أن تستمر في العيش بهذه الطريقة. ويتطلع العمال إلى إيجاد إجابة ومقترحات لكيفية الخروج من هذا المأزق. في هذا السياق عملنا على إصدار بيان يوضح أسباب الأزمة ويطرح برنامجا للنضال للحركة العمالية الأممية.

نشهد في جميع البلدان حضور أعداد متزايدة من الناس للاجتماعات، وإقبال أعداد أكبر من الناس على شراء جرائدنا، ومنشوراتنا، وكتبنا. هذه هي اللحظة التي يتوجب فيها على الماركسيين أن يطوروا أنشطتهم، ويبحثوا عن متعاطفين جدد وكسبهم إلى الماركسية.

ندعو جميع مناضلينا والمتعاطفين معنا إلى طبع هذا البيان وتوزيعه على أوسع نطاق ممكن بين العمال والشباب في جميع البلدان. عليكم أن تنظموا اجتماعات لنقاشه. إن الوضع الذي ينفتح أمامنا هو وضع حيث ستصير شرائح أوسع فأوسع من العمال والشباب مستعدين للإنصات إلى الأفكار والتحاليل الماركسية، ومستعدين أيضا للقيام بشيء ما بخصوص ما يحدث.

إن العمال غاضبون ومع كل يوم يمر يصيرون أكثر فأكثر جذرية. يجب علينا أن يسخر كل هذا من أجل بناء التيار الماركسي الأممي في جميع البلدان. هذه هي المهمة الملحة اليوم.

في الجزء الأول من هذا البيان سوف نتطرق لأسباب الأزمة وتأثيراتها.


أزمة عالمية للرأسمالية

تعتبر الأزمة العالمية للرأسمالية حقيقة لا يمكن لأي كان أن يتجاهلها. كان الاقتصاديون البرجوازيون لحدود الأمس القريب يطمئنوننا بأنه من المستحيل حدوث أزمة مشابهة لما حدث سنة 1929، لكنهم الآن يتحدثون عن خطر كساد عظيم آخر. ويحذر صندوق النقد الدولي من خطر متصاعد لحدوث انهيار اقتصادي حاد وطويل الأمد على الصعيد العالمي. إن ما بدأ كانهيار مالي بالولايات المتحدة الأمريكية، قد امتد الآن إلى الاقتصاد الحقيقي، مهددا مناصب الشغل والسكن ومستويات عيش ملايين البشر.

اكتسح الرعب الأسواق. وقد صرح المدير التنفيذي السابق لشركة ليمان براذرز (Lehman Brothers)، ريتشارد فولد، أمام الكونغرس الأمريكي بأن بنكه سقط بسبب "عاصفة من الخوف". ولا تظهر هذه العاصفة أية مؤشرات عن التوقف. وليست الأبناك وحدها مهددة بالإفلاس، بل هناك بلدان بأسرها أيضا، كما يوضح ذلك مثال أيسلندا. وقد كان من المفترض في آسيا أن تنقد العالم من الركود، إلا أن الأسواق الآسيوية غرقت في اضطرابات عظيمة. وصارت تسجل انهيارات كبيرة كل يوم من طوكيو إلى شنغهاي، ومن موسكو إلى هونغ كونغ.

إنه أكبر انهيار مالي منذ 1929. ومثله مثل الانهيار العظيم، سبقت هذا الانهيار الحالي مضاربات كثيفة خلال المرحلة السابقة. لقد وصل معدل المضاربات خلال العقدين الأخيرين درجات غير مسبوقة. إذ انتقلت رسملة الأسواق المالية في الولايات المتحدة من 5,4 تريليون دولار سنة 1994، إلى 17,7 تريليون دولار سنة 1999، و35 تريليون دولار سنة 2007. وهو الرأسمال المضارباتي الذي يتجاوز بكثير جدا ما سجل قبل 1929. يساوي المبلغ المسجل في السوق الثانوي 500 تريليون دولار على الأقل، أو ما يعادل عشرة مرات أكبر من إجمالي الإنتاج العالمي من السلع والخدمات.

خلال سنوات الازدهار، عندما كان أصحاب الأبناك يستطيعون مراكمة مبالغ لا تعد ولا تحصى من الأرباح، لم يكن هناك أي مجال لاقتسام أرباحهم مع بقية المجتمع. لكنهم الآن في ورطة، ولذا يسارعون إلى الحكومات ليطلبوا منها المال. لو أنك كنت مقامرا واقترضت ألف دولار وخسرتها، وكنت غير قادر على ردها، لتم إرسالك إلى السجن. لكن إذا ما كنت صاحب بنك ثري قامر بملايير الدولارات من أموال الآخرين وخسرها، فإنك لن تذهب إلى السجن، بل ستتم مكافئتك من طرف الدولة بالمزيد من الملايير من أموال الآخرين.

في مواجهة خطر انهيار كامل للنظام البنكي، بدأت الحكومات تتخذ إجراءات يائسة. فقد ضخت حكومة بوش 700 مليار دولار في صناديق أصحاب الأبناك في محاولة مسعورة لبعث الحياة في النظام المالي المحتضر. وهو الشيء الذي يعادل حوالي 2,400 دولار لكل رجل وامرأة وطفل في الولايات المتحدة. كما أعلنت الحكومة البريطانية خطة إنقاذ بحوالي 400 مليار جنيه إسترليني (وهو المبلغ الذي يعتبر من الناحية النسبية أكبر من المبلغ الذي ضخته الولايات المتحدة)، وقام الاتحاد الأوربي بضخ المزيد من المليارات. وتبلغ خطة الإنقاذ الألمانية حوالي 20% من الناتج الداخلي الخام لأقوى اقتصاد في أوربا. تعدت إدارة ميركل بضخ 80 مليار أورو من أجل إعادة رسملة الأبناك المفلسة، مع تخصيص ما تبقى لتغطية ضمانات القروض والخسائر. لحد اللحظة تم إنفاق حوالي 2,5 تريليون دولار عالميا، لكنها لم توقف السقوط اللولبي.

تدابير يائسة

ما تزال الأزمة الحالية أبعد من أن تصل إلى نهايتها. ولن يتم إيقافها بواسطة الإجراءات المتخذة من طرف الحكومات والأبناك المركزية. ولن ينجحوا من خلال ضخهم لمبالغ هائلة في صناديق الأبناك، في أقصى الحالات، سوى في تحقيق هدنة مؤقتة أو تلطيف هزيل لآثار الأزمة على حساب وضع جبال من الديون على كاهل الأجيال المقبلة. إلا أن كل الاقتصاديين الجديين يعلمون أن الأسواق سوف تواصل السقوط.

من بعض النواحي يعتبر الوضع الحالي أسوء حتى من الوضع الذي شهدته الثلاثينات من القرن الماضي. لقد كانت الموجة الهائلة من المضاربات التي سبقت الأزمة المالية الحالية وحضرت الشروط لها، أكبر بكثير من تلك التي تسببت في حدوث انهيار سنة 1929. مبالغ الرأسمال الخيالية التي تم ضخها في النظام المالي العالمي، والتي تشكل سما يهدد بتدمير النظام بأسره، كبيرة إلى درجة أن لا أحد بمقدوره أن يحصيها. الشيء الذي سيجعل "عملية التصحيح" (إذا ما أردنا استعمال تعبير الاقتصاديين البورجوازيين الظريف) بالتالي أكثر إيلاما وأطول مدة.

لقد كانت الولايات المتحدة، خلال سنوات الثلاثينات، أكبر مقرض للأموال في العالم. وهي الآن أكبر مستدين في العالم. وعند تطبيق سياسة النيو ديل الاقتصادية، من أجل إنعاش الاقتصاد الأمريكي في أعقاب الانهيار العظيم، كانت لدى روزفلت مبالغ هائلة من الأموال تحت تصرفه. أما اليوم فإن بوش مضطر إلى استجداء مجلس شيوخ معارض لتقديم أموال لا يمتلكها. إن القبول بمنح 700 مليار دولار للشركات الكبرى يعني المزيد من الرفع في الدين العمومي. الشيء الذي يعني بدوره مرحلة كاملة من التقشف والاقتطاعات في مستويات عيش ملايين المواطنين الأمريكيين.

إن هذه الإجراءات الناتجة عن الرعب لن تؤدي إلى وقف الأزمة، التي بدأت للتو. مثلما لم تؤدي سياسة روزفلت النيو ديل، عكس ما هو مشاع، إلى وقف الانهيار العظيم. فقد استمر الاقتصاد الأمريكي في حالة ركود حتى سنة 1941، عندما دخلت الولايات المتحدة الأمريكية الحرب العالمية الثانية، فمكنت المصاريف العسكرية الهائلة من القضاء على البطالة. إننا نواجه مرة أخرى مرحلة طويلة من تدهور مستويات العيش، وإغلاقات المصانع، وتخفيض الأجور، والاقتطاعات من ميزانية القطاعات الاجتماعية، والتقشف المعمم.

إن الرأسماليين يقفون في مواجهة مأزق بدون مخرج ولا يستطيعون إيجاد أي حل. جميع الأحزاب التقليدية تعيش حالة من الارتباك الذي يقارب العجز. لقد قال الرئيس بوش للعالم إن خطة الإنقاذ المالي التي وضعها "تحتاج إلى بعض الوقت" لكي تعطي ثمارها. وفي نفس الوقت تسقط المزيد من الشركات في هوة الإفلاس، ويفقد المزيد من الناس مناصب شغلهم، وتتعرض المزيد من البلدان للفوضى. وقد بدأت أزمة القروض تخنق بقية الشركات السليمة. ستجد الشركات، العاجزة عن زيادة رأسمالها، نفسها مجبرة على الاقتطاع أولا من الاستثمارات الثابتة، ثم من الرأسمال المشتغل وفي النهاية من مناصب الشغل.

يطالب أرباب العمل الحكومات والأبناك المركزية بتخفيض معدلات الفائدة. إلا أن هذه التدابير لن تجدي نفعا في ظل الظروف الحالية. والتخفيض المتزامن في معدلات الفائدة بـ 0,5% تلاه المزيد من السقوط الحاد في أسواق المال العالمية. إن الاضطراب العظيم الذي تشهده الأسواق لن يحله التخفيض قي معدلات الفائدة من جانب الأبناك المركزية. إذ في سياق ركود عالمي لا أحد يريد أن يبيع أسهما ولا أحد يريد أن يقرض أموالا. لقد توقفت الأبناك عن إقراض المال لأنها فقدت الثقة في إمكانية استرجاعها لأموالها. كل النظام مهدد بالشلل.

بالرغم من تضافر المجهودات بين الأبناك المركزية لضخ المال في النظام، ما تزال أسواق الإقراض جامدة بشكل تام. لقد قدمت الحكومة البريطانية لأصحاب الأبناك هدية قيمتها أكثر من 400 مليار جنيه إسترليني. والنتيجة كانت هي حدوث انهيار سوق الأسهم. شهد معدل الإقراض بين الأبناك مؤخرا ارتفاعا بعد الإعلان عن هذه الهبة وإعلان بنك إنجلترا عن تخفيض معدلات الفائدة بـ 0,5%. في أغلب الحالات، لم يستفد من هذه التخفيضات المقترضون ومقتنو المنازل. إن هذه الإجراءات لم تؤدي إلى حل الأزمة، بل فقط إلى ضخ الأموال في جيوب نفس هؤلاء الذين أدت أنشطتهم المضارباتية إلى مفاقمة الأزمة وأعطتها طابعها الحاد والجامح.

أصحاب الأبناك لا يخسرون أبدا

في الماضي كان البنكيون رجالا محترمين ببزاة سوداء، من المفترض فيهم أن يكونوا مثالا عن المسئولية والذين يخضعون الناس لمسائلة قاسية قبل أن يقرضوهم المال. لكن كل هذا تغير في الآونة الأخيرة. فعندما تنخفض معدلات الفائدة وتتوفر سيولة كبيرة من المال، يرمي البنكيون بالحذر عرض الحائط، ويعملون على إقراض الملايير لأناس تبين أنهم غير قادرين على تسديد القروض عندما ارتفعت معدلات الفائدة. والنتيجة كانت هي اندلاع أزمة قروض الرهن العقاري (the sub-prime mortgage)، التي تسببت في اضطراب النظام المالي بأسره.

لقد تواطأت الحكومات والأبناك المركزية من أجل صب الزيت على نار المضاربات لكي تتلافى حدوث الركود. ففي ظل رئاسة آلان غرينسبان عمل الاحتياطي الأمريكي على الحفاظ على معدلات فائدة جد منخفضة. وقد مدحت هذه السياسة باعتبارها سياسة جد حكيمة. بهذه الطريقة تمكنوا من تأجيل اليوم المشئوم، فقط عبر جعل الأزمة أسوء بألف مرة عندما ستحدث في النهاية. لقد مكنت الأموال الرخيصة البنكيين من الانغماس بنشاط في المضاربات. وأقبل الأفراد على الاقتراض للاستثمار في العقار أو شراء السلع؛ واستعمل المستثمرون القروض الرخيصة في الاستثمار في الأصول ذات العوائد المرتفعة، أو اقترضوا مقابل استثمارات موجودة؛ وتجاوزت قروض الأبناك ودائع المستهلكين بدرجة غير مسبوقة وأنشطة مشبوهة ظلت خارج أي مراقبة أو تقييم.

لكن كل هذا تحول إلى نقيضه الآن. كل العوامل التي دفعت بالاقتصاد إلى فوق تضافرت الآن لخلق دورة سقوط لولبي. وبما أن القروض ألغيت، فإن عجز القروض يهدد الاقتصاد بالشلل التام. إذا ما ارتكب عامل خطأ ما فإنه سيتعرض للطرد. لكن عندما يدمر أصحاب الأبناك النظام المالي كله، فإنهم يتوقعون أن تتم مكافئتهم. إن هؤلاء الناس ذوي البذل الفاخرة، الذين حققوا ثروات كبيرة من المضاربة بأموال الآخرين، يطالبون الآن دافعي الضرائب بأن يدفعوا الثمن عوضهم. إن هذا منطق غريب، يصعب على أغلب الناس فهمه.

خلال سنوات الازدهار حقق قطاع الأبناك والمال أرباحا هائلة. فسنة 2006 وحدها، حققت الأبناك الكبرى حوالي 40% من كل الأرباح التي تحققت في الولايات المتحدة. هذا قطاع يحقق فيه المدراء التنفيذيون مكافئات تعادل 344 ضعف أجرة عامل متوسط في الولايات المتحدة. قبل ثلاثين سنة كانت المدراء التنفيذيون يحصلون على أجرة تساوي حوالي 35 ضعف أجرة عامل مؤهل. أما خلال السنة الماضية فقد حصل المدراء التنفيذيون لـ 500 أكبر شركة على 10,5 ملايين دولار كـ "مكافئة".

يطلب البنكيون منا الآن أن ننسى كل هذا ونركز على ضرورة إنقاذ الأبناك. يجب وضع كل الحاجيات الملحة للمجتمع جانبا، وينبغي وضع كل ثروات المجتمع بأسره رهن إشارة أصحاب الأبناك، الذين يزعم أن أهميتهم للمجتمع أكبر من أهمية الممرضين والأطباء والأساتذة وعمال البناء. لقد أنفقت حكومات الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية في أسبوع واحد ما يعادل المبلغ الضروري للحد من الجوع في العالم مدة حوالي خمسين سنة. وبينما يموت ملايين البشر جوعا، يواصل البنكيون الحصول على أجور سخية ومكافئات ويحافظون على نمط حياة باذخة على حساب الشعب. وحقيقة وجود أزمة لا تشكل فرقا بالنسبة لهم.

"لمصلحة الجميع"؟

أغلب الناس غير مقتنعين بحجج البنكيين والسياسيين. إنهم يشعرون بمرارة بحقيقة أن الأموال التي ادخروها بصعوبة تقدم للبنكيين والأثرياء. لكنهم عندما يعترضون يواجههم السياسيون بقولهم: "ليس هناك من بديل". إن هذا الزعم يتكرر كثيرا وبإلحاح كبير أسكت كل الانتقادات، خاصة وأن جميع الأحزاب متفقة حوله.

الديمقراطيون والجمهوريون، الاشتراكيون الديمقراطيون والديمقراطيون المسيحيون، المحافظون والعماليون، كلهم وحدوا قواهم في مؤامرة حقيقية لإقناع الشعب بأنه "لمصلحة الجميع" يجب أن يتم نهب الشعب الكادح من أجل وضع المزيد من الأموال في يد عصابة المجرمين المتحدين. ويصرخون قائلين: "إننا نحتاج نظاما بنكيا سليما (أي مربحا)"، "إننا نحتاج إلى إعادة الثقة، وإلا فإن الدمار الشامل سيحل صباح يوم غد".

إن الهدف من وراء هذا النوع من الحجج هو تعميم جو من الخوف والرعب، من أجل الحيلولة دون حدوث نقاش عقلاني. لكن على ماذا تنطوي هذه المزاعم حقا؟ إذا ما جردناها من جميع المحسنات اللفظية فسوف يصبح معناها هو فقط ما يلي: بما أن الأبناك في أيدي الأغنياء، وبما أن الأغنياء لن "يغامروا" بأموالهم إلا إذا كانوا سيحصلون على معدلات ربح أعلى، وبما أنهم لا يحققون الأرباح الآن، بل فقط الخسائر، فإنه يتوجب على الحكومة أن تتدخل وتعطيهم مبالغ ضخمة من الأموال من أجل تمكينهم من استعادة أرباحهم ومن ثم ثقتهم. آنذاك سيصبح كل شيء على خير ما يرام.

سبق للاقتصادي الأمريكي الشهير، جون كينيث غالبرايث، أن لخص هذه المقولة على الشكل التالي: "لدا الفقير مال أكثر من اللازم، بينما يمتلك الغني أقل من اللازم". والفكرة هي أنه إذا كان الأغنياء يحققون أرباحا جيدة، فعلى المدى البعيد سوف يسقط بعض الفتات وهكذا سوف يستفيد الجميع. لكن وكما سبق لكينز أن قال: على المدى البعيد سنكون جميعا في عداد الأموات. إضافة إلى أن الممارسة بينت أن هذه النظرية خاطئة.

إن الزعم القائل بأنه من جد الضروري ضخ مبالغ هائلة من المال العمومي في صناديق الأبناك لأنه إذا لم يتم ذلك فإن كارثة سوف تحل على الجميع، لا يقنع نساء ورجال الطبقة العاملة، والذين يطرحون السؤال البسيط التالي: لماذا علينا أن نؤدي ثمن أخطاء البنكيين؟ وبما أنهم هم الذين وضعوا أنفسهم في هذه الورطة، فعليهم أن يقوموا هم بإنقاذ أنفسهم بأنفسهم. وبالإضافة إلى خسارة عدد كبير من مناصب الشغل في قطاعي المال والخدمات، تؤثر أزمة الأبناك على مستويات العيش بطرق أخرى. لقد دفع الاضطراب الذي تعرفه الأسواق بالبورصة إلى التراجع وقضى على مدخرات العمال والطبقة الوسطى.

لحد اللحظة خسر برنامج المعاشات في الولايات المتحدة ما يساوي تريليوني (2 تريليون) دولار. وهذا يعني أن هؤلاء الناس الذين عملوا بجهد كل حياتهم من أجل ادخار المال على أمل الحصول على تقاعد مريح نسبيا، هم الآن مجبرون على إلغاء مخططاتهم وتأجيل تقاعدهم. أكثر من نصف الأشخاص المستجوبين في استطلاع للرأي نظم مؤخرا قالوا بأنهم قلقون من كونهم سيضطرون إلى العمل مدة أطول لأن قيمة مدخرات تقاعدهم قد تراجعت، وحوالي شخص من كل أربعة أشخاص زاد أو زادت من عدد الساعات التي يشتغلها أو تشتغلها.

يواجه العديد من الناس خطر فقدانهم لمنازلهم. عندما تفقد أسرة ما منزلها، يقال إن ذلك ناتج عن جشعها وافتقادها لبعد النظر. فتحكم عليهم قوانين السوق الصارمة و"البقاء للأصلح" بالتشرد. إن تلك مسألة شخصية وليست ضمن اهتمامات الحكومة. لكن عندما يتعرض بنك ما للخراب بسبب المضاربات الجشعة من جانب أصحابه، فإن ذلك يعتبر كارثة للمجتمع بأسره ومن ثم يتوجب على المجتمع بأسره أن يتحد من أجل إنقاذه. هذا هو منطق الرأسمالية!

يجب مقاومة هذه المحاولات الدنيئة لوضع ثقل الأزمة على كاهل الفقراء. من أجل حل الأزمة من الضروري نزع كل النظام البنكي والمالي من بين أيدي المضاربين ووضعه تحت الرقابة الديمقراطية للمجتمع، حتى يصير في خدمة الأغلبية الساحقة وليس الأغنياء.

إننا نطالب بما بلي:

  1. لا مزيد من الهبات لصالح الأغنياء. لا لمكافئة القطط السمان! نعم لتأميم الأبناك وشركات التأمين ووضعها تحت الرقابة والتسيير العمالي الديمقراطي. يجب أن تتخذ قرارات الأبناك في خدمة مصالح أغلبية المجتمع، وليس في خدمة مصلحة الأقلية من الأثرياء الطفيليين. يجب أن يتم التأميم بدون تعويض إلا في حالة تقديم الدليل على الحاجة من جانب صغار المستثمرين فقط. إن تأميم الأبناك هو الطريقة الوحيدة لضمان ودائع ومدخرات الشعب الكادح.

  2. الرقابة الديمقراطية على الأبناك. يجب أن تتشكل الأجهزة المسيرة للأبناك بالطريقة التالية: ثلث منتخب من طرف العمال البنكيون، وثلث منتخب من طرف النقابات لتمثيل مصالح الطبقة العاملة بأسرها، وثلث من طرف الحكومة.

  3. الوقف الفوري للمكافئات المبالغ فيها، يجب أن تساوي أجور كل المدراء التنفيذيين على أجرة عامل مؤهل. لماذا ينبغي لبنكي أن يحصل على أكثر من أجرة طبيب؟ إذا لم يكن البنكيون مستعدين للخدمة مقابل أجرة معقولة، فيجب أن يطردوا ويعوضوا بحاملي شهادات مؤهلين، أغلبهم يبحثون عن منصب شغل ومستعدون لخدمة المجتمع.

  4. تخفيض فوري لمعدلات الفائدة، والتي يجب أن تقتصر على القيمة الضرورية لتعويض تكاليف العمليات البنكية. يجب توفير قروض رخيصة لصالح من هم في حاجة إليها: صغار المقاولين والعمال الذين يقتنون منازلا، وليس البنكيين والرأسماليين.

  5. الحق في امتلاك سكن؛ الوقف الفوري لعمليات نزع ملكية المنازل، وفرض تخفيض عام في مبلغ الإيجار، وتطبيق برنامج عمومي لبناء المنازل لتوفير السكن للفقراء.

سبب الأزمة

ليس السبب الحقيقي وراء هذه الأزمة هو سوء تصرف بعض الأفراد. لو أن ذلك هو السبب لكان الحل بسيطا: جعلهم يتصرفون بشكل أفضل مستقبلا. وهذا ما كان غوردون براون يعنيه عندما طالب: "بالشفافية، والنزاهة والمسئولية". يعلم الجميع أن النظام المالي الدولي شفاف مثل القبر، وأن البنكيين أناس نزهاء مثل رجال المافيا، ومسئولون مثل مقامرين مدمنين. لكن حتى وإن كان جميع البنكيين تقاة ورعين، فإن ذلك لن يحدث أي فرق جوهري.

ليس من الصحيح أن نرجع أسباب الأزمة إلى جشع وفساد البنكيين (بالرغم من كونهم بالغي الجشع والفساد). إن الأزمة بالأحرى تعبير عن إفلاس نظام بأسره، إنها تعبير عن الأزمة البنيوية للرأسمالية. ليس المشكل هو جشع بعض الأفراد، ولا هو غياب السيولة أو انعدام الثقة. المشكلة هي أن النظام الرأسمالي يقف على الصعيد العالمي في مأزق بدون مخرج. إن السبب الحقيقي للأزمة هو أن تطور قوى الإنتاج قد تجاوز الحدود الضيقة للملكية الخاصة والدولة الوطنية. غالبا ما يتم تصوير اتساع وانكماش القروض باعتباره السبب في الأزمة، لكنه ليس في الواقع سوى المؤشر الأكثر بروزا عنها. إن الأزمات مكون بنيوي للنظام الرأسمالي.

سبق لماركس وإنجلز أن شرحا قبل وقت طويل أن:

«المجتمع البرجوازي الحديث، بعلاقات الإنتاج والتبادل والملكية البرجوازية المرتبطة به، المجتمع الذي أبدع مثل وسائل الإنتاج والتبادل الضخمة هذه، يُشبه المشعوذ الذي فقد سيطرته على التحكُّم بالقوى الجهنمية التي استحضرها – فمنذ عشرات السنين، ليس تاريخ الصناعة والتجارة سوى تاريخ تمرد القوى المنتجة الحديثة على علاقات الإنتاج الحديثة، على علاقات الملكية، قوام حياة البرجوازية وسيطرتها.

وتكفي الإشارة إلى الأزمات التجارية الدورية، التي تهدد أكثر فأكثر وجود المجتمع البرجوازي بأسره. ففي الأزمات التجارية، لا يُـتـلَف بانتظام جزء كبير من المنتجات فحسب، بل يـُتـلَف أيضا قسم من القوى المنتجة القائمة. وفي الأزمات يتـفـشّى وباء مجتمعيّ ما كان ليبدو، في كل العصور السالفة، إلاّ مستحيلا، وهو وباء فائض الإنتاج. فإن المجتمع يجد نفسه فجأة وقد رُدَّ إلى وضع من الهمجية المؤقتة، حتى ليُخيَّل أنّ مجاعة وحرب إبادة شاملة قد قطعتاه عن وسائل العيش؛ فتبدو الصناعة والتجارة وكأنهما أثر بعد عين، لماذا ؟ لأن المجتمع يملك المزيد من الحضارة، والمزيد من وسائل العيش، والمزيد من الصناعة، والمزيد من التجارة.

ولم تعد القوى المنتجة، الموجودة تحت تصرّف المجتمع، تدفع بنمو علاقات الملكية البرجوازية قُدُما، بل على العكس من ذلك، أصبحت أقوى جدا من هذه العلاقات التي باتت تعيقها؛ وكلما تغلبت على هذا العائق جرّت المجتمع البرجوازي بأسره إلى الفوضى، وهددت وجود الملكية البرجوازية. فالعلاقات البرجوازية غدت أضيق من أن تستوعب الثروة، التي تُحدثها. فكيف تتغلب البرجوازية على هذه الأزمات ؟ من جهة بتدمير جزء كبير من القوى المنتجة بالعنف، ومن جهة أخرى بغزو أسواق جديدة، وباستثمار الأسواق القديمة كليّا. أي بالإعداد لحدوث أزمات أشمل وأشد وتخفيض الوسائل التي يمكن بواسطتها الحيلولة دون حدوث الأزمات.»(1)

إن هذه الكلمات المقتبسة من البيان الشيوعي، الذي كتب سنة 1848، ما تزال آنية وراهنية اليوم مثلما كانت عليه آنذاك. حتى ليمكن القول إنها كتبت بالأمس.

إن المسألة الأكثر أهمية، في كل الحالات، ليست هي البنك بل الاقتصاد الحقيقي: أي إنتاج السلع والخدمات. من أجل تحقيق الربح، يجب إيجاد سوق. لكن الطلب في تراجع مستمر، ويتفاقم هذا التراجع بفعل غياب القروض. إننا نقف أمام أزمة كلاسيكية للنظام الرأسمالي، قد بدأت تضرب العديد من الضحايا الأبرياء. إن انهيار أسعار المنازل في الولايات المتحدة أدى إلى حدوث أزمة في قطاع البناء، الذي فقد من الآن مئات الآلاف من مناصب الشغل. قطاع صناعة السيارات في أزمة، حيث تسجل المبيعات أدنى مستوى لها منذ 16 سنة. وهذا بدوره يعني تراجع الطلب على الحديد، والبلاستيك، والمطاط،، والكهرباء، والنفط، وغيرها من المنتجات. سوف يكون له تأثير هائل على جميع قطاعات الاقتصاد، مما سيعني ارتفاع البطالة وانهيار مستويات العيش.

فوضى الرأسمالية

لقد قيل لنا طيلة السنوات الثلاثين الأخيرة، أو أكثر، إن أفضل نظام اقتصادي ممكن هو ما يدعى باقتصاد السوق الحرة. ومنذ أواخر السبعينات والشعار الأساسي للبرجوازيين هو: "دعوا السوق يسير" و"أبعدوا الدولة عن الاقتصاد". كان من المفترض في السوق أن تمتلك قوى سحرية تمكنها من تنظيم القوى المنتجة بدون أي تدخل من طرف الدولة. تعود هذه الفكرة إلى زمن أدم سميث الذي كان خلال القرن الثامن عشر يتحدث عن "اليد الخفية للسوق". وطالما افتخر السياسيون بالاقتصاديين بكونهم ألغوا الدورة الاقتصادية. وطالما كرروا مقولة: "لا عودة إلى دورة الازدهار والأزمات".

كانوا يرفضون تطبيق أي نوع من التنظيم. بل على العكس من ذلك، طالبوا بأعلى صوتهم بإلغاء كل أشكال التنظيم باعتبارها "ضارة بالسوق". ومن تم رموا بكل تنظيم عرض الحائط وأعطوا لقوى السوق السلطة العليا. كان السعي المسعور وراء الربح هو الحكم، إذ تحركت مبالغ هائلة من الرساميل من قارة إلى أخرى بدون أي عائق، فدمرت قطاعات صناعية بأسرها وأضرت باقتصادات العديد من البلدان بضغطة زر حاسوب. هذا ما أسماه ماركس بفوضى الرأسمالية. وها نحن الآن نرى النتائج. ومع تقديم 700 مليار دولار من طرف الحكومة الأمريكية و400 مليار جنيه إسترليني من طرف الحكومة البريطانية، سوف تصير الدولة متدخلة في الاقتصاد طيلة سنوات عديدة. إن مبلغ 400 مليار جنيه إسترليني يعادل نصف الدخل القومي لبريطانيا. وحتى إذا ما تم استرداد هذه الأموال (وهو الشيء الجد مشكوك فيه) فإنه سوف يعني عدة سنوات من الرفع في الضرائب والاقتطاعات من ميزانية القطاعات الاجتماعية والتقشف.

هناك قانون قديم جدا يحكم السوق، إنه قانون غريزة القطيع. إذ تثير أقل رائحة للأسد في الغابة موجة رعب في القطعان لا يمكن لأي شيء إيقافها. هذه هي الآلية التي تحدد مصير ملايين الناس. هذه هي حقيقة اقتصاد السوق. فبالضبط مثلما يمكن للحيوانات أن تشعر بوجود الأسد، يمكن للأسواق أن تشعر بقرب حدوث الركود. إن احتمال حدوث الركود هو السبب الحقيقي للرعب. وبمجرد ما يدب الرعب في النفوس، لا شيء يمكنه أن يوقفه. فلا الخطابات المطمئنة، ولا كل التخفيضات في معدل الفائدة، ولا جميع المنح المقدمة للأبناك، سيكون لها أي تأثير على الأسواق المالية. سيرى الناس أن الحكومات والأبناك المركزية مرعوبة، ومن ثم سيستخلصون الخلاصات الضرورية.

إن الرعب الذي اجتاح الأسواق يهدد بإفشال جميع المحاولات التي تقوم بها الحكومات لمحاصرة الأزمة. لن تنجح أي من تلك الإجراءات اليائسة المتخذة من طرف الاحتياطي الأمريكي والحكومات الأوربية والأبناك المركزية، في إيقاف الذعر الجماعي. إن ما يعطي للفضيحة الحالية أثرا أكثر حدة هو أن نفس هؤلاء الناس الذين يصرخون اليوم طلبا للنجدة من طرف الدولة، هم أنفسهم من كانوا دائما يقولون بأنه ليس للحكومة أي دور تلعبه في الاقتصاد، وإن يجب السماح لاقتصاد السوق الحرة أن تعمل بدون أي تنظيم أو أي شكل من أشكال تدخل الدولة.

إنهم الآن يشتكون بمرارة من أن الأجهزة المنظمة للاقتصاد لم تقم بدورها كما يجب. لكن ولحدود وقت قريب جدا كان هناك اتفاق عام على أن الدور الوحيد الذي يمكن للأجهزة المنظمة للاقتصاد أن تلعبه هو بكل بساطة ترك السوق وشأنها. إن كلاب الحراسة هؤلاء محقون عندما يقولون إنه ليس من شأنهم أن يسيروا الأبناك، لأن هذا هو الشعار الذي كان سائدا طيلة الثلاثين سنة الأخيرة. لقد كانت الأجهزة المنظمة للاقتصاد عاجزة في كل مكان عن أن تتحكم في "تجاوزات" القطاع المالي. إذ طيلة العقود الثلاثة الأخيرة كان جميع المدافعين عن السوق الحرة يطالبون بإلغاء الأجهزة المنظمة للاقتصاد.

كان من المفترض أن التنافس بين المراكز المالية سيضمن اشتغال الأسواق بطريقة فعالة، بفضل اليد الخفية للسوق. إلا أن إفلاس سياسة "دعه يعمل" هذه اتضح بجلاء خلال صيف 2007. وهاهم الآن كلهم يلطمون خدودهم ويشتكون من عواقب تصرفاتهم. إن المجتمع يدفع الآن ثمن السياسات التي حاول من خلالها الرأسماليون وممثلوهم السياسيون أن يحافظوا على استمرار فترة الازدهار عبر الاستمرار في نفخ الفقاعة المضارباتية. كانوا جميعا مشاركين في هذه الخدعة الكبرى. الجمهوريون والديمقراطيون، حزب العمال والمحافظين، الاشتراكيون الديمقراطيون و"الشيوعيون" السابقون، جميعهم صفقوا لاقتصاد السوق ولكرنفال ربح الأموال السعيد.

من السهل جدا أن يكون المرء حكيما بعد وقوع الحدث، ومثلما يفعل جميع المخمورين صبيحة حفل صاخب، بعد أن ينهضوا والصداع يشق رؤوسهم، هاهم جميعا يقسمون بكونهم قد تعلموا الدرس، وإنهم لن يعودوا مجددا لشرب الخمر، وهو الوعد الذي يصممون بصدق على الوفاء به، إلى حين موعد الحفل التالي. والآن يدس المراقبون الماليون أنوفهم حتى في أبسط شئون الأبناك، لكن فقط بعد أن صارت الأبناك على حافة الهاوية. أين كانوا من قبل؟

الجميع يلومون الآن البنكيين الجشعين على التسبب في الأزمة. لكن بالأمس فقط كان نفس هؤلاء البنكيين الجشعين يوصفون من طرف الجميع بكونهم منقذو الأمة، وبكونهم خالقو الثروات، ومتحملو المخاطر، ومانحو منصب الشغل. العديد من موظفي بورصة لندن ووول ستريت مهددون الآن بفقدان مناصب شغلهم، لكن المضاربين حققوا الملايين بفضل المضاربات القصيرة الأمد. لقد سمح المراقبون باستمرار عمل الكازينو لأن رواتبهم مرتبطة هي أيضا بالنتائج القصيرة الأمد.

تحاول السلطات، بعد فوات الأوان، أن تفرض القيود على أجور كبار مدراء الأبناك مقابل تطبيقها لسياسة الإنقاذ المالي. إنهم لا يقومون بذلك بسبب مبدأ أو بناء على قناعة منهم، بل لأنهم يخافون من رد فعل الجماهير على فضيحة المكافئات الضخمة التي تقدم من الميزانية العامة إلى نفس هؤلاء الأشخاص الذين تسببوا في فوضى الاقتصاد. إن هؤلاء السادة غير واعين بمزاج الغضب والكره الذي يتصاعد داخل المجتمع، أو أنهم لا يبالون به. لكن السياسيين لا يمكنهم أن يتجاهلوا بشكل كلي المزاج السائد بين المصوتين الذين يمكنهم أن يسقطوهم خلال الانتخابات التالية.

لكن المشكل الذي يواجهونه هو أنه من المستحيل فرض النظام على الفوضى الرأسمالية. إنهم يشتكون من الجشع، إلا أن الجشع مكون بنيوي لاقتصاد السوق ويجب ألا يقيد. كل المحاولات التي تبذل للحد من المكافئات والعلاوات "المبالغ فيها" ستقابل بالرفض. سوف تعبر السوق عن عدم رضاها عن ذلك من خلال انهيار فجائي لأسعار الأسهم. الشيء الذي سوف يؤدي إلى لفت انتباه واضعي القوانين ويجبرهم على الانتباه للمصوتين الحقيقيين، أي: مالكو الثروة. عندما يضحي عامل ما بعلاوة في الأجر خلال هذه السنة فإن ذلك المال يضيع إلى الأبد. لكن ليست نفس القاعدة تطبق على كبار مدراء الأبناك والرأسماليين. إذ حتى وإن قبل هؤلاء الأخيرين، لأسباب قاهرة، بالتقليص من المكافئات التي يحصلون عليها هذه السنة، فإنهم سيكافئون أنفسهم على هذه "التضحية" العظيمة بالرفع من المكافئات التي يحصلون عليها في السنة التالية. ليست المسألة صعبة على الإطلاق.

إن الفكرة القائلة بأن الشعب عاجز عن تسيير شئونه بطريقة أفضل مما هو الحال الآن، ليست سوى افتراء بشع في حق الجنس البشري. فطيلة العشرة آلاف سنة الماضية أبانت الإنسانية عن أنها قادرة على التغلب على جميع العراقيل والتقدم نحو الهدف النهائي، نحو الحرية. تضع الاكتشافات الرائعة، التي تشهدها ميادين العلوم والتكنولوجيا، بين أيدينا وسائل حل جميع المشاكل التي أرهقتنا طيلة قرون عديدة. لكن هذه الإمكانيات العظيمة لن يمكن تطويرها إلى أقصى حدودها ما دامت رهينة بنظام السعي وراء الربح.

من أجل حياة أفضل

والعجيب حقا هو أن بعض المعلقين، وفي سياق سعيهم إلى الدفاع عن الرأسمالية، يحاولون إلقاء اللوم على المستهلكين ومقتنيي المنازل، يقولون بدون خجل: "الجميع مسئولون"، ويحتجون قائلين بأنه لا أحد أجبرنا على أخذ رهن عقاري بـ 125%، ولا على الاقتراض من أجل أداء ثمن عطلة بالخارج وأحذية فاخرة. لكن في ظل وضع يكون الاقتصاد بصدد النمو بسرعة، وتكون القروض رخيصة، حتى الفقراء يميلون إلى "العيش في مستوى يفوق إمكاناتهم". في الواقع كانت معدلات الفائدة الحقيقية، في فترة معينة بالولايات المتحدة، سلبية، مما يعني أن الناس كانوا يعاقبون على عدم أخذ قروض.

إن الرأسمالية تخلق بشكل مستمر حاجيات جديدة، والإشهار صار الآن صناعة ضخمة، تستعمل أكثر الوسائل تعقيدا لإقناع المستهلكين بأنه يجب عليهم الحصول على هذا المنتج وذاك. حيث يتم عرض نمط حياة البذخ التي يعيشها "المشاهير" الأثرياء أمام أنظار الفقراء، ويضفى عليها صورة خادعة ويتم غسل دماغ الناس لجعلهم يحلمون بأشياء لا يمكن أبدا أن تكون في ملكهم. بعد ذلك يقوم المنافقون البرجوازيون بتوجيه أصبع الاتهام إلى الجماهير المحكوم عليها، مثل Tantalusا(2)، بأن تشاهد مأدبة فاخرة بينما هي تعاني من آلام الجوع والعطش.

ليس هناك أي شيء غير أخلاقي أو غير منطقي في التطلع إلى حياة أفضل. ولو لم يكن الإنسان يتطلع دائما إلى شيء أفضل، لما حدث أي تقدم مطلقا. ولغرق المجتمع في مستنقع من الركود والسلبية. ينبغي علينا بالتأكيد أن نتطلع إلى حياة أفضل، لأننا لا نعيش إلا حياة واحدة فقط. وإذا كان ما يوجد الآن هو كل ما يمكننا التطلع إليه، فإن مستقبل الإنسانية سيكون كئيبا حقا. إن الشيء الغير أخلاقي والغير إنساني فعلا هو هذا التنافس المسعور الذي تخلقه الرأسمالية، حيث ينظر إلى الجشع الأناني بإجلال ليس فقط باعتباره ميزة، بل أيضا باعتباره المحرك الأساسي لكل التقدم الإنساني.

تؤمن الطبقة الرأسمالية بما يسمى بمبدأ البقاء للأصلح. إلا أنها لا تعني بهذا أن البقاء للناس الأصلح والأكثر ذكاء، بل تعني به البقاء للأغنياء فقط، مهما كانوا غير أكفاء، وأغبياء، وقبيحين، أو سقيمين، ولا يهم كم عدد الناس الصالحين والأكفاء والأذكياء الذين يموتون آنذاك. الفكرة التي يتم نشرها بشكل منهجي هي أن تطور الفرد يجب أن يكون على حساب كل الآخرين، وأن جشعه الأناني يجب أن يلبى عبر خسارة الآخرين، وأنه لكي يتقدم المرء يجب عليه أن يسحق الآخرين. إن هذه الفردانية البرجوازية المشئومة هي الأساس النفسي والأخلاقي للعديد من الأمراض التي تصيب المجتمع حاليا، وتنخر أحشائه وتجره إلى مستويات الهمجية البدائية. إنها أخلاق أكلة لحوم البشر، وعقلية "فليأتي الطوفان من بعدي".

إن هذه الصورة الكاريكاتورية عن الانتخاب الطبيعي إهانة لذكرى شارل داروين. في الحقيقة كان التعاون، وليس الصراع، هو السر في بقاء وتطور الجنس البشري منذ بداياته الأولى. لقد كان أسلافنا في غابات السافانا الإفريقية (على اعتبار أننا جميعا ننحدر من مهاجرين أفارقة) كائنات صغيرة وضعيفة. لقد كانوا يفتقرون إلى المخالب والأسنان القوية. لم يكونوا يستطيعون الركض بمثل سرعة الحيوانات التي كانوا يريدون التهامها أو المفترسات التي كانت تريد الانقضاض عليهم. بتطبيق نظرية "البقاء للأصلح" كان على جنسنا أن ينقرض قبل حوالي ثلاثة ملايين سنة. إن الامتياز التطوري الرئيسي الذي امتلكه أسلافنا كان هو التعاون والإنتاج الاجتماعي. لقد كانت الفردانية في ظل تلك الظروف ستعني الموت المحقق.

تغير الوعي

ينبغي على المرء أن يطرح على المدافعين عن ما يسمى بنظرية "البقاء للأصلح" سؤالا بسيطا: ما هو السبب الذي يدفع إلى إنقاذ الأبناك، التي تبين أنها غير صالحة مطلقا للبقاء، وعدم تركها تسقط، بل يتم بذل كل شيء لإنقاذها بكرم ذلك المجتمع الذي من المفترض ألا يكون موجودا؟ فلكي يتم إنقاذ الأبناك الضعيفة والغير صالحة، والمسيرة من طرف مدراء أغبياء وغير أكفاء، يفترض في الأغلبية الكادحة، المشكلة من الناس الأكفاء والأذكياء، أن تضحي بنفسها عن طيب خاطر. لكن المجتمع غير مقتنع مطلقا بأن يضحي، من أجل هذه المهمة النبيلة، بالكماليات من قبيل المدارس والمستشفيات ويعيش في ظل نظام التقشف خلال المستقبل المنظور.

إن الانهيارات الاقتصادية التي نتابع أخبارها كل يوم على صفحات الجرائد وشاشات التلفزيون، تحكي لنا قصة معناها واضح للجميع، وهي أن: النظام الرأسمالي القائم لم يعد صالحا. لقد أفلس تماما. ليست هناك أموال للرعاية الصحية، ولا للمدارس أو المعاشات، لكن عندما يتعلق الأمر بوول ستريت فإن هناك كل أموال الدنيا. وعلى حد تعبير الكاتب الأمريكي العظيم، غور فيدال، إن ما لدينا هو الاشتراكية لصالح الأغنياء واقتصاد السوق الحرة للفقراء.

لقد بدأ الكثير من الناس العاديين يستخلصون الخلاصات الصحيحة من كل هذا. لقد بدءوا يساءلون النظام الرأسمالي ويبحثون عن بديل. لكن ليس هناك مع الأسف أي بديل جاهز. مما يجعل الناس في أمريكا يولون وجوههم جهة أوباما والديمقراطيين. إلا أن الجمهوريين والديمقراطيين لا يشكلان سوى فردتي حذاء يمنى ويسرى في أرجل كبار الرأسماليين. وحسب غور فيدال مرة أخرى: "ليس هناك في جمهوريتنا سوى حزب واحد، إنه حزب الملكية الخاصة، بجناحين يمينين". كلاّ من أوباما وماك كاين ساندا بحماس خطة الإنقاذ المالية القاضية بمنح الشركات الكبرى مبلغ 700 مليار دولار. إنهما يمثلان نفس المصالح، مع بعض الاختلافات الطفيفة في التكتيك.

سوف يكون لهذه الحقيقة تأثير جبار على الوعي. من البديهيات في الماركسية القول بأن الوعي الإنساني محافظ جدا. إن الناس بشكل عام لا يحبون التغيير. إن العادة والتقاليد والروتين تلعب دورا هاما جدا في تشكيل نظرة الجماهير إلى الأشياء. والتي تقاوم عادة فكرة إجراء تعديل شامل في حياتهم وعاداتهم. لكن عندما تهز المجتمع أحداث عظيمة من أساسه، يجبر الناس على إعادة النظر في أفكارهم القديمة ومعتقداتهم القديمة وأحكامهم المسبقة.

لقد دخلنا للتو هذه المرحلة. إن المرحلة الطويلة من الازدهار النسبي التي استمرت عقدين من الزمن أو أكثر، في البلدان الرأسمالية المتقدمة، باستثناء الركود القصير الأمد الذي حدث سنة 2001، تركت بصماتها. بالرغم من كل مظالم الرأسمالية، وبالرغم من ساعات العمل الطويلة، وتكثيف الاستغلال، واللامساواة الفاضحة، والبذخ الفاحش للأثرياء الذي يستعرض بوقاحة أمام الأعداد المتزايدة من الفقراء والمهمشين، بالرغم من كل هذا، كان أغلب الناس يعتقدون أن اقتصاد السوق كان صالحا وسيبقى صالحا. ويصدق هذا القول بالخصوص على الولايات المتحدة الأمريكية. لكن بالنسبة لعدد متزايد من الناس لم يعد كل هذا صحيحا.


  1. تمت الترجمة بالاعتماد على النص الموجود بموقع أرشيف الماركسيين على الانترنت، مع بعض التعديلات.-المترجم-

  2. هو الابن المفضل (لزيوس)، في الأساطير اليونانية، وقد عوقب بسبب تضحيته بابنه بيلوبس بالوقوف في الماء حتى رقبته، تتدلى أغصان الفواكه الرطبة ذات الرائحة العطرة فوقه، لكنه حينما كان يريد أن يطفئ عطشه، كان الماء يتدفق بعيداً عنه، وحين كان يريد أن يشبع جوعه ويمد يديه ليقطف فاكهة كانت الأغصان تبتعد عنه. -المترجم-

الجزء الثاني»

Source: Marxy.com