تاريخ إسرائيل – فلسطين حتى عام 1993

لقد سبق لتروتسكي أن حذر، عام 1940، من أن محاولة حل “المسألة اليهودية” في أوروبا من خلال تجريد الفلسطينيين من ممتلكاتهم ستكون “فخًا دمويًا”. وما تزال هذه الكلمات صحيحة حتى يومنا هذا. لكن التاريخ الحقيقي لإسرائيل وفلسطين تعرض للدفن تحت جبال من التزوير.

[Source]

في هذا المقال، يشرح الرفيق فرانشيسكو ميرلي المناورات الخسيسة والمكائد التي اقترفتها الدول الإمبريالية والتي مهدت الطريق لتقسيم فلسطين التاريخية. تشهد هذه الحادثة في التاريخ على قصر نظر الطبقة الحاكمة، التي فتحت صندوق باندورا للعنف والانحطاط اللذان يجتاحان المنطقة منذ ذلك الحين.

يتتبع المقال التاريخ من أصول الصهيونية، مرورًا بإنشاء إسرائيل، وحرب الأيام الستة، والانتفاضة الأولى، وحتى خيانة اتفاقيات أوسلو في عام 1993.


لقد كان الشرق الأوسط، على مدى المائة عام الماضية، رقعة شطرنج للعديد من المواجهات الحاسمة بين القوى الإمبريالية. إن السبب وراء الأهمية التي تتمتع بها المنطقة، والتي كانت تعتبر ذات أهمية ثانوية نسبيا حتى نهاية القرن التاسع عشر، معروف جيدا: فتحت أراضي الشرق الأوسط توجد أكبر احتياطيات النفط على كوكب الأرض. وبالنظر إلى عدد من الأسباب الجيوسياسية والتاريخية، أصبحت فلسطين على نحو متزايد بؤرة التوترات في منطقة الشرق الأوسط.

سيرورة التحلل الطويلة التي عرفتها الإمبراطورية العثمانية، تسارعت فجأة مع ثورة “تركيا الفتاة” في يوليوز 1908، لكنها لم تكتمل إلا بعد هزيمة الإمبراطورية في الحرب العالمية الأولى.

كانت الإمبراطورية العثمانية خلال القرن التاسع عشر قد فقدت بالفعل السيطرة على جزء كبير من مقاطعاتها الأوروبية. وخلال تلك الفترة كانت بريطانيا وفرنسا قد سيطرتا أيضا على أجزاء كبيرة من شمال إفريقيا. استولت فرنسا على الجزائر عام 1830 واحتلت تونس عام 1881. بينما غزت بريطانيا مصر والسودان عام 1882. بل وحتى قوة ثانوية مثل إيطاليا استولت على جزء من الإمبراطورية، باحتلالها لليبيا عام 1911.

دخلت حكومة تركيا الفتاة الحرب إلى جانب قوى المركز، ألمانيا والنمسا- المجر. لكن بريطانيا وفرنسا كانتا قد توصلتا بالفعل، قبل وقت طويل من نهاية الحرب، إلى تفاهم حول كيفية تقاسم غنائم الإمبراطورية فيما بينهما.

اتفق البريطانيون والفرنسيون، المعتادون على السيطرة على إمبراطوريات استعمارية شاسعة، على إنشاء سلسلة من الدول المفصولة بشكل مصطنع بحدود مرسومة بشكل تعسفي على الخرائط بواسطة القلم والمسطرة. تم إبرام الصفقة بموجب اتفاقية سايكس بيكو السرية (بموافقة روسيا وإيطاليا) في يناير 1916.

مباشرة بعد الثورة ندد البلاشفة بتلك الصفقة وفضحوها في نوفمبر 1917، ، مما أثار استياء الإمبرياليين. ومع ذلك فإن التقسيم، بعد الحرب، حدث على غرار ما نصت عليه اتفاقية سايكس وبيكو. حيث سيطرت فرنسا على سوريا ولبنان. وتم الاعتراف لبريطانيا بالانتداب على بلاد ما بين النهرين (العراق الحديث) وفلسطين وممارسة الحماية على النظام الملكي العميل في شرق الأردن (الأردن حاليا).

عمل الإمبرياليون البريطانيون بكلبية على تغذية آمال القوميين العرب في وطن عربي. تم إجراء مفاوضات حول ذلك من طرف المندوب السامي البريطاني في مصر، السير هنري مكماهون، في مراسلاته مع حسين بن علي، شريف مكة، مقابل الدعم العربي لبريطانيا في الحرب. وقد لعب التمرد العربي ضد العثمانيين دورا رئيسيا في انهيار الإمبراطورية العثمانية.

ومع ذلك، لم تكن لدى الإمبرياليين البريطانيين أية نية في الوفاء بوعودهم، إذ كانوا أكثر اهتماما بتوسيع مجال نفوذهم. شكّل صعود الوعي القومي العربي تهديدا استراتيجيا لمصالحهم الإمبريالية.

المسألة اليهودية والصهيونية

تاريخ الهجرة اليهودية إلى فلسطين مرتبط بشكل وثيق بصعود الحركة الصهيونية في نهاية القرن التاسع عشر. فحتى ذلك الحين كان عدد السكان اليهود الأصليين الذين يعيشون في فلسطين يبلغ بضعة آلاف من السكان، يتركز معظمهم في المناطق الحضرية.

وجاءت نقطة التحول مع موجة المذابح التي شنتها الشرطة السرية في الإمبراطورية الروسية ضد الأقلية اليهودية، التي تم تحميلها المسؤولية عن اغتيال القيصر ألكسندر الثاني عام 1881.

اقتحمت حشود غاضبة من الغوغاء، حرضها عملاء استفزازيون مأجورون، الأحياء اليهودية ونهبوها واعتدوا على سكانها. فر مئات الآلاف من اليهود من روسيا وأوكرانيا هربا من حملة الإرهاب والقتل والضرب والاغتصاب والاعدامات خارج نطاق القانون وتدمير سبل عيشهم وممتلكاتهم.

تلى ذلك المزيد من موجات المذابح في 1903-1906، وموجات أكبر في عامي 1917 و1921، أطلقتها الجيوش البيضاء خلال الحرب الأهلية ضد الثورة البلشفية.

وفي نهاية القرن التاسع عشر، تسببت حادثة أخرى في موجات صدمة هائلة. ففي 1894-1895، حكم على الضابط الفرنسي اليهودي، ألفريد دريفوس، ظلما بتهمة الخيانة. وقد أطلقت محاكمته العنان لحملة من معاداة السامية في فرنسا.

لعبت “قضية دريفوس” دورا مهما في تحول مفكر يهودي برجوازي علماني ، هو تيودور هرتزل (1860-1904) إلى الصهيونية. في الواقع لقد كتب هرتزل كتاب “الدولة اليهودية” في أعقاب المحاكمة، وهو الكتاب الذي أصبح لاحقا البيان السياسي للحركة الصهيونية.

صار هرتزل المنظم والمنظر الرئيسي للحركة الصهيونية، وطورها لتصير قوة عالمية. وابتكر تكتيكات تنظيم الهجرة الجماعية لليهود من أوروبا إلى فلسطين.

كما توصل إلى استنتاج مفاده أن نمو الميول المعادية للسامية في أوروبا يجب اعتباره عاملا مساعدا محتملا للمشروع الصهيوني، ووسيلة للضغط على ما اعتبره الجمود اليهودي العلماني.

ثم استند المشروع السياسي الصهيوني على الجهود المبذولة للضغط على رؤساء الدول والوزراء الأوروبيين (الذين كانوا في أغلبيتهم معادين بشدة للسامية) في محاولة لإقناعهم بأن هجرة اليهود إلى فلسطين تمثل فرصة ذهبية لهم ليتخلصوا من المسألة اليهودية، فضلاً عن حقيقة أن دولة يهودية في فلسطين يمكنها أن تكون مفيدة للقوى العظمى باعتبارها “حائط صد أمامي للحضارة الأوروبية ضد البربرية الآسيوية”.

كان على المشروع الصهيوني منذ البداية أن يعتمد على رعاية إحدى القوى الإمبريالية الرئيسية لضمان نجاحه.

طمأن هرتزل السلطات العثمانية بأن الهجرة اليهودية ستفيد الإمبراطورية ماديا، وذلك لكي يحصل على موافقة السلطات العثمانية. لكنه كان يعترف في السر أنه لا يمكن أن تكون هناك دولة يهودية بدون مصادرة ممتلكات الفلسطينيين وطردهم.

قال في مذكراته:

يجب أن نصادر بلطف. […] علينا أن نحفز أن أن نشج السكان المفلسين على الهجرة من خلال توفير فرص عمل لهم في بلدان العبور، مع حرمانهم من أي عمل في بلدنا. […] يجب أن تتم كل من عملية نزع الملكية والتخلص من الفقراء بحذر ودقة. [1]

أدى تحقيق اليوتوبيا الصهيونية الرجعية إلى تحويل فلسطين إلى ساحة حرب كلفت الفلسطينيين (وكذلك المستوطنين اليهود) معاناة لا توصف. وما تزال عواقبه الرجعية مستمرة حتى يومنا هذا.

ومع ذلك، فقد كانت الحركة الصهيونية في بداية القرن العشرين ما تزال لا تمثل سوى أقلية ضئيلة، محصورة في دائرة صغيرة من المثقفين والبرجوازيين والبرجوازيين الصغار اليهود.

تطور الوعي القومي العربي

كان احتمال أن يقوم العمال العرب بتنظيم صفوفهم للنضال ضد الاستغلال سببا دائما للقلق بالنسبة للقادة الصهاينة.وكان السبب الآخر لخوفهم هو أن يؤدي تطور وعي قومي عربي إلى أن يوحد العرب لمقاومة الاستعمار الصهيوني.

بدأ الوعي القومي العربي في التطور في ثمانينيات القرن التاسع عشر. وقد أثارت ثورة تركيا الفتاة عام 1908 الآمال في التحرر لجميع شعوب الإمبراطورية العثمانية.

أدى التحول السريع للنظام الجديد نحو القومية التركية إلى تسريع سيرورة تطور الوعي القومي بين جميع شعوب الإمبراطورية، ولا سيما بين العرب، الذين يتشاركون منطقة تمتد من العراق الحديث إلى المغرب، ولغة وتقاليد مشتركة.

في فلسطين، أصبحت هذه السيرورة أكثر حدة بسبب العداء المتزايد لعواقب الهجرة اليهودية. كانت كل عملية استحواذ على الأرض من قبل المستوطنين تؤدي تلقائيا إلى طرد المزارعين الفلسطينيين، الذين غالبا ما يكونون غير مدركين أن ملاك الأرض الرسميين الغائبين قد باعوها للوافدين الجدد، بسبب ارتفاع أسعار الأراضي.

حسب المؤرخ بيني موريس، قفز متوسط سعر الأرض من 5.3 جنيهات فلسطينية للدونم عام 1929، إلى 23.3 جنيها عام 1935. وبلغ سعر الأرض عام 1944 خمسين ضعف سعر عام 1910.

لم يكن المستوطنون يتحدثون العربية، ولم يكونوا على دراية بالثقافة والتقاليد المحلية، وفي كثير من الحالات لم يهتموا بتعلمها، وكانوا ينتهكون العادات الراسخة، ويعتدون على الأراضي المشتركة، والمراعي، وقبل كل شيء الحق في الحصول على المياه. وبالتالي لم يمض وقت طويل حتى شعر الفلسطينيون بالتهديد الذي يلوح في الأفق من التدفق المستمر للمستوطنين.

وعد بلفور

أصبح المخططون الاستراتيجيون للإمبريالية البريطانية مهتمين. لقد فهموا أن المشروع الصهيوني يمكن أن يصبح أداة مفيدة لتنفيذ خطط بريطانيا في الشرق الأوسط بعد زوال الإمبراطورية العثمانية.

وفي الثاني من نوفمبر 1917، تم تلخيص هذا التحول في الرسالة الموجهة من اللورد بلفور، نيابة عن الحكومة البريطانية، إلى اللورد روتشيلد والاتحاد الصهيوني، والتي جاء فيها:

حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف لمطلب إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل قصارى جهدها لتسهيل تحقيق هذا الهدف، على أن يكون مفهوما بوضوح أنه لن يتم فعل أي شيء قد يضر بالحقوق المدنية والدينية للمجتمعات غير اليهودية الموجودة في فلسطين، أو الحقوق والوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر.

يظهر البند الثانوي بوضوح أن الإمبرياليين البريطانيين كانوا، حتى في ذلك الوقت، يفهمون بشكل واضح الآثار المترتبة عن سياستهم. فما يسمى بـ “الحل” المقترح، على أساس الرأسمالية، للاضطهاد القديم ضد اليهود أدى بالضرورة إلى اندلاع “القضية الفلسطينية”.

في عام 1923، كتب الصهيوني اليميني فلاديمير جابوتنسكي بيانه السياسي “الجدار الحديدي”. لقد أدرك أهمية وعد بلفور، وجادل بأنه يجب إجبار الفلسطينيين على الاستسلام “بجدار حديدي من الحراب اليهودية”، و…”الحراب البريطانية”. فنجاح المشروع الصهيوني، من وجهة نظره، رهين بالدعم الفعال والرعاية من جانب الإمبريالية البريطانية.

وقد أصبح هذا الدعم حقيقة واقعة بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية وتطبيق الانتداب البريطاني على فلسطين.

سمح الانتداب البريطاني للصهاينة بتطوير مؤسسات شبيهة بمؤسسات الدولة، كانت الوكالة اليهودية تشبه حكومة جنينية؛ والصندوق القومي اليهودي وسيلة لتوجيه الأموال وشراء الأراضي، والأهم من ذلك إنشاء ميليشيا يهودية: هاغانا.

ومع ذلك فإنه عند اندلاع الحرب العالمية الأولى لم يكن هناك أكثر من 60 ألف يهودي في فلسطين، في حين أن الأرض المشتراة حتى عام 1908 كانت تعادل 1.5 % فقط من الأراضي المتاحة. وفي العشرينيات تسارع تدفق المستوطنين الجدد، نتيجة للانتداب البريطاني على فلسطين.

في عام 1929، كان الرصيد الإجمالي للهجرة اليهودية منذ عام 1880، على النحو التالي: من بين حوالي الأربعة ملايين يهودي الذين هاجروا في تلك الفترة من وسط وشرق أوروبا، لم يذهب إلى فلسطين سوى 120 ألفا فقط (بعضهم بشكل مؤقت فقط)، مقارنة بـ 2.9 مليون يهودي هاجروا إلى الولايات المتحدة، و210.000 إلى بريطانيا، و180.000 إلى الأرجنتين، و125.000 إلى كندا. كان عدد السكان اليهود المستوطنين في فلسطين يتزايد، حيث وصل إلى 150.000 في عام 1929، وارتفع إلى أكثر من 400.000 بحلول عام 1936.

وقد بلغت الاحتكاكات المتزايدة بين الفلسطينيين والمستوطنين اليهود ذروتها مع أعمال الشغب التي شهدتها يافا في ماي 1921، حيث قتل العشرات من الجانبين.

في غشت 1929، تحولت انتفاضة الفلسطينيين ضد الاحتلال البريطاني إلى انتفاضة دموية، حيث حدثت سلسلة من الهجمات ضد التجمعات اليهودية. وقد أصابت إحدى تلك الهجمات مستوطنة يهودية فلسطينية صغيرة في الخليل (كان يقطنها حوالي 600 شخص)، يعود تاريخها إلى القرن السادس عشر.

أسفر الهجوم عن مقتل 66 يهوديا، على الرغم من محاولة العديد من الفلسطينيين حماية الفارين من خلال استضافتهم في منازلهم. تم القضاء على المستوطنة اليهودية في الخليل. في حين صدت هاغاناه هجمات أخرى. كان عدد القتلى في تلك “الأيام الدموية”، لشهر غشت 1929، هو 133 يهوديا و116 فلسطينيا.

أعطت تلك الأحداث دفعة حاسمة لتقوية الميليشيا اليهودية، هاغاناه، والتي صارت تتعاون بشكل متزايد مع المحتل البريطاني.

تشكيل الحزب الشيوعي الفلسطيني

ظهرت خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي فرصت بناء بديل ثوري، مستند إلى الطبقة العاملة، كان من الممكن أن يجنب العمال اليهود والعرب اندلاع حرب أهلية سيخسرون فيها كل شيء.

في أوائل العشرينات من القرن الماضي، عزز وجود الإدارة الاستعمارية البريطانية درجة معينة من التطور الصناعي في المدن الساحلية، مما ساعد على إنشاء قطاع اقتصادي يعمل فيه العمال اليهود والفلسطينيون جنبا إلى جنب. أثر ذلك التطور بشكل كبير على الاقتصاد الفلسطيني، الذي كان يغلب عليه الطابع الريفي، وأدى إلى هجرة مكثفة من الريف إلى المدن الساحلية.

أنشأت الإدارة الاستعمارية السكك الحديدية، وشركة الهاتف، ومكتب البريد والتلغراف، والموانئ وأحواض بناء السفن، والإدارات المدنية، التي أضيفت إليها الإدارات المحلية للمدن ذات الكثافة السكانية المختلطة، وكذلك شركات كبيرة في القطاع الخاص ذات رأس المال الأجنبي التي شغلت العمالة اليهودية والفلسطينية. من بينها، على سبيل المثال، مصنع الإسمنت نيشر وشركة النفط العراقية ومصفاة حيفا وقطاع البناء الذي عرف توسعا سريعا.

بين إحصاء السكان سنة 1922 وإحصاء سنة 1931، نما عدد السكان العرب الفلسطينيين بنسبة 40٪، وفي مدن مثل يافا وحيفا بنسبة 63٪ و87٪ على التوالي. أدى الوافدون الجدد إلى تضخم صفوف البروليتاريا في كل القطاعات، مما أدى بسرعة إلى زيادة ملحوظة في النضالات النقابية. وبالإضافة إلى الهجرة من الريف كانت الهجرة من بلدان الجوار، وخاصة مصر.

غالبا ما أدى عدم وجود قوة عاملة يهودية لتحل محل العمالة العربية، إلى استيراد عمال يهود رخيصين إلى فلسطين من اليمن أو البلدان المغاربية.

شكل هؤلاء الشريحة الأكثر استغلالا من بين الطبقة العاملة اليهودية وكانوا بعيدين عن غالبية الصهاينة من أصل أوروبي، الذين كان أغلبهم يتحدثون اليديشية، وشغلوا جميع المناصب القيادية في المؤسسات الصهيونية.

كانت تلك هي الفترة التي نشأ فيها الانقسام المتزايد بين اليهود الأشكناز والسفارديم (أحفاد اليهود الإسبان الذين استقروا في الإمبراطورية العثمانية)، والذي ما يزال يميز المجتمع الإسرائيلي حتى اليوم.

كان السفارديم يتحدثون بلغة لادينو، وهي لهجة مشتقة من الإسبانية. كانوا في الغالب قادرين على التحدث باللغة العربية أو فهمها، واحتلوا مرتبة اجتماعية أعلى بقليل من البروليتاريا العربية. في ظل تلك الظروف، سرعان ما نشأ الوعي الطبقي بين هذه الفئة، التي شعرت بشكل غريزي بأنها أقرب إلى العرب منها إلى كبار رجال الأعمال اليهود مثل روتشيلد ورفاقه.

غير أن الأحزاب “الاشتراكية” الصهيونية عارضت بشدة أية دعوة إلى فتح نقابات العمال اليهود أمام العمال العرب.

كان هناك خلاف بين منظمة حدوت هافودا (Hadut Haavoda)، بزعامة دايفيد بن غوريون، التي كانت تؤيد تنظيم العمال العرب لكن في منظمات منفصلة ذات “كرامة متساوية” (تحت القيادة الصهيونية)، وبين منظمة هابويل هاتزير (Hapoel Hatzair) بزعامة حاييم أرلوسوف، الذي دافع عن الطبيعة اليهودية الخالصة للمنظمات النقابية من أجل تعزيز الانقسام المتزايد بين أرستقراطية عمالية يهودية، تشتغل في الوظائف الأكثر مهارة والأفضل أجورا، وبين جماهير العمال اليدويين العرب غير المنظمين.

كان هناك موقف ثالث عبر عنه حزب آخر من اليسار الصهيوني، هو بوالي تزيون (Po’aley Tziyon). تحول ذلك الحزب إلى مواقف شبه ثورية من خلال سعيه للحصول على عضوية الأممية الشيوعية في عام 1924، على الرغم من عدم نبذه بشكل كامل للصهيونية. رفضت الأممية الشيوعية قبول حزب لم يتحرر بالكامل من الصهيونية. أدى ذلك إلى حدوث انشقاق داخل الحزب وتأسيس الحزب الشيوعي الفلسطيني. وقد تم طرد الحزب الجديد على الفور من نقابة العمال الصهيونية الهستدروت.

نضالات العمال والوحدة الطبقية

دافع الحزب الشيوعي الفلسطيني عن النقابات العمالية الموحدة، دون تمييز على أسس قومية أو دينية. ومن خلال اتباعه لهذا الخط السياسي، كان الحزب الشيوعي الفلسطيني قادرا على الاستفادة من الكفاحية المتصاعدة والمطالبة بالوحدة المبنية على أساس التجربة. لكن هذه الرغبة الغريزية في الوحدة واجهت الرفض والعراقيل من كل من القيادة الصهيونية والقوميين العرب.

تمكن الحزب من التغلغل داخل صفوف الطبقة العاملة العربية واليهودية. وأصدر صحيفتين بلغتين. وعلى الرغم من أن قاعدة دعمه الرئيسية كانت بين العمال العرب، فقد حصل على 8٪ من الأصوات في انتخابات ييشوف (Yishuv المجلس اليهودي)، وأكثر من 10٪ إذا أخذنا بعين الاعتبار التصويت في المدن.

كان هناك مثال -محدود لكنه مهم- حول إمكانية تطور الوحدة الطبقية أثناء الإضراب. نظم مائتا عامل يهودي في مصنع نيشر للأسمنت في حيفا إضرابا والتحق بهم 80 عامل مصري، طرحوا مطالبهم الخاصة، إذ أنهم كانوا أكثر اضطهادا وكانوا يتلقون نصف أجرة العمال اليهود.

بعد إضراب دام شهرين، استجاب رب العمل لبعض مطالب العمال اليهود. إلا أن العمال صوتوا ضد الصفقة بـ170 صوتا مقابل 30 (في تحد لموقف نقابتهم) وتعهدوا بمواصلة الإضراب حتى تتم تلبية مطالب رفاقهم المصريين بالكامل.

خوف قيادة الهستدروت من أن يصير هذا المثال معديا دفعها للضغط على الإدارة الاستعمارية البريطانية، التي قامت بترحيل جميع العمال المصريين الثمانين.

ميل العمال إلى الوحدة في النضال ظهر عدة مرات ما بين 1925-1935. يجب أن نذكر إضراب الخبازين، ونضالات عمال ميناء حيفا وعمال السكك الحديدية، وإضراب سائقي النقل العام وسيارات الأجرة عام 1931. واندلعت في عام 1935 الحركة النضالية المهمة لعمال شركة النفط العراقية ومصفاة حيفا.

خلال تلك السنوات نظم الحزب الشيوعي الفلسطيني نقابات عمالية مستقلة عن الهستدروت واكتسب قواعد دعم مهمة في العديد من القطاعات بين غالبية العمال العرب والعديد من العمال اليهود. نجاحاته أجبرت الصهاينة على تغيير تكتيكاتهم وتأييد تشكيل نقابات عربية موحدة مع النقابات الصهيونية، لمواجهة تأثير الشيوعيين.

لكن الإمكانات الهائلة التي مثلها نمو الحزب الشيوعي الفلسطيني ضاعت بسبب عواقب الانحطاط الستاليني للاتحاد السوفياتي. البيروقراطية السوفياتية، تحت حكم ستالين، حولت الأممية الشيوعية إلى مجرد أداة لخدمة مصالحها الدبلوماسية. كان ذلك يعني التخلي عن السياسة الثورية الصحيحة القائمة على الوحدة الطبقية، من خلال الميل إلى القومية العربية خلال الثورة الفلسطينية الكبرى في 1936-1939، مما أدى إلى فقدان الحزب معظم قواعد دعمه بين العمال اليهود.

خلال الحرب العالمية الثانية تعرض الحزب لضربة أكبر بفعل تحول موسكو إلى التعاون الحربي مع الإمبريالية البريطانية، مما قوض قاعدة الحزب بين الطبقة العاملة الفلسطينية، قبل أن يتلقى ضربة قاضية في عام 1948 بسبب قرار الاتحاد السوفياتي دعم انشاء إسرائيل.

الدور الرجعي للنخبة الفلسطينية

هيمنت على المعسكر القومي الناشئ بين الفلسطينيين عائلات النخبة، التي وفرت مسؤولي البلدية والقضاة وضباط الشرطة والمسؤولين الدينيين وموظفي الخدمة المدنية للإدارة العثمانية وبعد ذلك للسلطة الاستعمارية البريطانية. لقد برزوا كقيادة قومية للفلسطينيين. ومع ذلك فقد فصلت هوة شاسعة بين تلك النخبة وبين الجماهير الفقيرة والأمية إلى حد كبير.

أدى الصراع على السيادة بين عشيرتي الحسيني والنشاشيبي في منتصف الثلاثينيات إلى تشكيل حزبين قوميين عربيين متنافسين. تعرض حزب الدفاع الوطني بقيادة النشاشيبي لمنافسة الحزب العربي الفلسطيني الأكثر قومية. لكن ولاء الحسيني والنشاشيبي للقومية العربية لم يمنعهما من أن يكونوا جزءا من القائمة الطويلة لمن باعوا الأراضي للصهاينة سرا.

تبنى الحزب العربي الفلسطيني مواقف قومية جذرية على أسس معادية للسامية. تعاطف العديد من القوميين العرب (بمن فيهم الرئيس المصري المستقبلي أنور السادات) علنا مع الفاشية والنازية. وكانت كلمات أمين الحسيني الداعمة لهتلر في خطاب ألقاه أمام القنصل الألماني في القدس معبرة، حيث قال: “يرحب المسلمون داخل فلسطين وخارجها بالنظام الجديد لألمانيا ويأملون في امتداد النظام الحكومي الفاشي المناهض للديمقراطية إلى بلدان أخرى”.

تطورت الجماعات القومية العربية المسلحة. وقد نفذت منظمة “اليد السوداء”، بقيادة الشيخ عز الدين القسام، هجمات متفرقة ضد المستوطنين اليهود ابتداء من عام 1931. قامت القوات البريطانية بقتل القسام في كمين نصبته له في 21 نوفمبر 1935، فتحول إلى رمز للقومية العربية.

زادت وتيرة الهجرة اليهودية بشكل أكبر خلال الثلاثينيات. بين عامي 1931 و1934 ضرب فلسطين جفاف طويل الأمد. وفي عام 1932، انخفض الإنتاج الزراعي بنسبة تتراوح بين 30٪ و75٪، حسب نوعية المحاصيل والمناطق المتضررة. أدى ذلك إلى إفقار القرى الفلسطينية واكتظاظ الأحياء الفقيرة حول يافا وحيفا.

كما عصفت بفلسطين أزمة مالية ناجمة عن تداعيات الوضع في الحبشة الذي أدى إلى إفلاس العديد من الشركات. أدى تضافر تلك العوامل إلى تفاقم أزمة الجماهير الفلسطينية.

الثورة الفلسطينية الكبرى 1936-1939

على الرغم من أن اشتباكات 1921 و1929 كانت عنيفة ودموية، فإنها لم تؤثر بشكل مباشر سوى على شريحة صغيرة من السكان العرب واليهود.

لكن في أبريل 1936، انتشرت الثورة الفلسطينية بشكل جماهيري من المدن، حيث تشكلت بشكل عفوي “لجان وطنية” بمبادرة من الشباب. كان الزعماء التقليديون مترددين في الدخول في مواجهة مباشرة مع السلطات البريطانية. لم يتم تشكيل اللجنة العربية العليا لقيادة الثورة، بقيادة الحسيني، حتى 25 أبريل.

تميزت الثورة بإضراب عربي عام استمر ستة أشهر، وانتفاضة شبه دائمة وحرب عصابات مسلحة في الريف (من منتصف ماي إلى منتصف أكتوبر).

لاحظ بن غوريون الحجم المختلف لهذه الثورة، حيث كتب أن العرب “يقاتلون ضد تجريدهم من الملكية… العربي يخوض حربا لا يمكن تجاهلها. ينخرط في الإضرابات ويتعرض للقتل، ويقدم تضحيات كبيرة “. وقال أيضا في 19 ماي 1936: [العرب] “يرون… بالضبط عكس ما نراه. لا يهم ما إذا كانت وجهة نظرهم صحيحة أم لا… إنهم يرون الهجرة على نطاق واسع… يرون أن اليهود يحصنون أنفسهم اقتصاديا… يرون أفضل الأراضي تنتقل إلى أيدينا. يرون أن إنجلترا تتماهى مع الصهيونية”.

انتهج الصهاينة (بزعامة نقابة الهستدروت) سياسة عدوانية لكسر الإضراب قامت على استبدال العمال الفلسطينيين بعمال يهود في كل الشركات، شركة تلو الأخرى.

في عام 1937، أوضح سكرتير الاتحاد النقابي في يافا موقف الصهاينة على النحو التالي: “إن الهدف الأساسي للهستدروت هو كسب العمال… بغض النظر عن عدد العرب العاطلين عن العمل، فليس لهم الحق في تولي أي وظيفة من الممكن أن يحتلها مهاجر محتمل. لا يحق لأي عربي العمل في مشاريع يهودية. إذا كان من الممكن تنقيل العرب إلى أعمال أخرى أيضا… فهذا جيد”[2].

لم يكن أمام السلطات البريطانية طيلة أشهر أي بديل سوى انتظار تراجع قوة الانتفاضة. لم يتم الإعلان عن الأحكام العرفية وفرض حظر التجول إلا في 07 شتنبر. تم شحن 20 ألف جندي من بريطانيا ومصر، بمساعدة 2700 شرطي يهودي إضافي. وبدأت عملية مكافحة التمرد، مما دفع القادة العرب إلى إلغاء الإضراب بحلول 10 أكتوبر، على أمل أن يؤدي إلى مخرج تفاوضي.

شكلت الحكومة البريطانية لجنة ملكية برئاسة اللورد بيل لإجراء تحقيق وتحديد شروط تسوية الصراع الفلسطيني الصهيوني. أوصى تقرير بيل المؤلف من 404 صفحات، والذي نُشر في 07 يوليوز 1937، بتقسيم فلسطين: 20٪ من الأراضي للسلطة اليهودية؛ بقاء القدس والممر إلى يافا تحت الإدارة البريطانية، وكذلك المدن الساحلية ذات الكثافة السكانية المختلطة؛ مقابل ضم بقية الأراضي إلى شرق الأردن وتشكيل دولة عربية واحدة. كانت النتيجة الطبيعية للاقتراح هي النقل القسري لـ 225.000 فلسطيني و 1250 يهوديا.

اعتبر الزعيمان الصهيونيان وايزمان وبن غوريون تقرير بيل بمثابة نقطة انطلاق لمزيد من التوسع. وعلق وايزمان: “سيكون اليهود حمقى إذا لم يقبلوا ذلك، حتى لو كانت [الأرض المخصصة لهم] بحجم مفرش المائدة”. لذلك قبل الصهاينة التقرير ورفضته اللجنة العربية العليا.

المرحلة الثانية من الثورة

في شتنبر 1937 استؤنفت الثورة بقوة، لكن اللجنة العربية العليا مزقها نزاع عنيف نشأ عن محاولة الحسيني، في يوليوز 1937، اغتيال زعيم العشيرة المناوئة. وفي هذا السياق قال أحد كبار المسؤولين في الوكالة اليهودية، إلياس ساسون، في أبريل 1939: “وديان من الدماء تفصل الآن الفصيلين”.

استمرت الثورة في دوامة من الاشتباكات والقمع. تم حظر اللجنة العربية العليا واعتقال 200 من قادتها وشنق العديد منهم، في حين فر آخرون.

دفع “تقرير بيل” الحزب اليهودي اليميني المراجعاتي (الذي يطالب بمراجعة الانتداب البريطاني) لشن حملة إرهابية ضد الفلسطينيين العاديين. شنت منظمة إرغون زواي لومي عدة هجمات بالقنابل ضد مدنيين فلسطينيين في محطات الحافلات والأسواق، مما أسفر عن مقتل وجرح المئات.

تحركت المجموعات الفلسطينية المسلحة بدون قيادة مركزية. وكان الكثير منها بدون منظور، وتحولت للأسف إلى عصابات إجرامية تنهب الفلاحين الفلسطينيين، مما تسبب في تنفيرهم منها. أدى هذا الوضع إلى تقويض آفاق الثورة بشكل حاسم.

استمرت الثورة حتى ماي 1939، حيث شارك فيها، عندما كانت في ذروتها، أي خريف عام 1938، حوالي 20 ألف مقاتل فلسطيني. عشية الحرب العالمية الثانية، انتهت أخطر ثورة عربية ضد الاحتلال البريطاني بسقوط آلاف القتلى والهزيمة بحكم الأمر الواقع.

الحرب العالمية الثانية والمحرقة

أدت هزيمة الثورة إلى تحول حاد في سياسة الإمبريالية البريطانية. خشي البريطانيون من اندلاع ثورة عربية جديدة عندما كان لا بد من توفير القوات للجبهات الأخرى. وعلاوة على ذلك لم ترغب الإمبريالية البريطانية في استعداء البرجوازية العربية، وذلك في محاولة لمنع تعاونها مع النازيين.

قدم الكتاب الأبيض، الذي صاغته الإدارة الاستعمارية (نُشر في 17 ماي 1939)، لأول مرة حدا أقصى للهجرة اليهودية (حد أقصى قدره 75000 على مدى السنوات الخمس التالية) وقيودا شديدة على شراء اليهود للأراضي. كما اقترح إنشاء دولة مستقلة في غضون عشر سنوات يحكمها مبدأ الأغلبية.

لم يؤد هذا التغيير بالطبع إلى زيادة الدعم العربي للإمبريالية البريطانية. لكنه قوض علاقة بريطانيا الوثيقة بالقيادة الصهيونية. اعتبر الصهاينة هذا التحول البريطاني (في نفس الوقت الذي كانت تتصاعد فيه المخاوف من السياسة النازية المعادية للسامية) بمثابة خيانة.

كانت السلطات البريطانية قد ساعدت منظمة هاغاناه على التحول نحو “الدفاع المسلح” ضد الفلسطينيين. في ماي 1938 ، أنشأت هاغاناه “كتائب ميدانية” لتطبيق تكتيكات مكافحة التمرد في الأرياف. وبعد شهر واحد، تم إنشاء فرق ليلية خاصة بهدف ترويع الأحياء والقرى العربية التي كانت تدعم الثورة.

عاد الصهاينة بعد عقد على ذلك لاستخدام تلك التكتيكات نفسها على نطاق أوسع بكثير لإرهاب الفلسطينيين وإجبارهم على الفرار من قراهم ومنازلهم، في سياق السعي إلى إقامة إسرائيل.

في بداية عام 1939، تم إنشاء ثلاث وحدات سرية تُعرف باسم بيلوت ميشادوت Pe’luot meyuchadot (“العمليات الخاصة”) بهدف تنفيذ أعمال انتقامية ضد القرى العربية وفرق المغاوير، وكذلك تنفيذ هجمات على المنشآت البريطانية والقضاء على المخبرين. تم وضع هذه الوحدات تحت القيادة المباشرة لدافيد بن غوريون.

كانت التقارير الأولى عن عمليات الترحيل الجماعي لليهود من قبل النازيين قد بدأت تنتشر مع تدفق اللاجئين الأوروبيين اليهود، مما أدى إلى إحداث تأثير نفسي كبير على اليهود في الشتات (خاصة في الولايات المتحدة) الذين وجدوا أن القيود البغيضة التي فرضتها السلطات البريطانية بشأن الهجرة، قيودا لا تطاق.

إلا أن موقف القيادة الصهيونية من التهديد النازي اتسم بالكلبية. ففي دجنبر 1938، بعد شهر من المذبحة النازية التي عُرِفت لاحقا باسم ليلة الكريستال، صرح بن غوريون: “إذا علمت أنه كان من الممكن إنقاذ جميع الأطفال [اليهود] في ألمانيا من خلال نقلهم إلى إنجلترا، أو إنقاذ نصفهم فقط عن طريق نقلهم إلى أرض إسرائيل، كنت سأختار الخيار الثاني، لأن الأمر لا يتعلق فقط بمصلحة هؤلاء الأطفال، بل يتعلق أيضا بالمصلحة التاريخية للشعب اليهودي”.

في دجنبر 1942 ، علق مرة أخرى قائلا: “إن كارثة يهود أوروبا ليست من شأني بشكل مباشر…”[3].

استغلت القيادة الصهيونية يأس اليهود الفارين من أوروبا لتعزيز الدعم الدولي للصهيونية وتحديها بشكل صارخ للحصار المفروض على الهجرة من قبل السلطات البريطانية، التي عقدت العزم على تضييق الخناق على الهجرة غير الشرعية بأي ثمن.

لكن قسما من اليمين الصهيوني رفض أي تعاون مع البريطانيين. ففي نوفمبر 1944، اغتالت منظمة لوهامي حيروت إسرائيل، “مقاتلون من أجل حرية إسرائيل” (المعروفة أيضا باسم عصابة شتيرن) في القاهرة الوزير البريطاني المقيم في الشرق الأوسط ، اللورد موين.

تم إرسال سلسلة من القوارب المليئة باللاجئين في تحد صريح للحظر البريطاني، مما أثار شد الحبل مع سلطات الانتداب التي قررت منع جميع المحاولات وترحيل آلاف اللاجئين إلى معسكرات الاعتقال في موريشيوس وقبرص. كان اللاجئون مجرد بيادق، محاصرين في صراع كلبي أدى إلى مآسي متعددة.

في نوفمبر 1940، فجرت هاغاناه سفينة باتريا، وهي سفينة راسية في حيفا محملة بـ 1700 مهاجر ينتظرون الترحيل إلى موريشيوس، مما تسبب في مقتل 252 شخصا. غرقت سفينة أخرى، ستروما، كان على متنها 769 لاجئا، في 25 فبراير 1942 في البحر الأسود بعد أن عارضت السلطات البريطانية نقلهم (جميعهم قتلوا باستثناء واحد).

لم يتمكن سوى عدد قليل جدا من اللاجئين اليهود من الهرب إلى فلسطين خلال الحرب، بينما كان النازيون يبيدون ستة ملايين يهودي في أوروبا، إلى جانب ملايين السلاف والغجر والشيوعيين ومناهضي الفاشية من مختلف الجنسيات والأديان والتوجهات السياسية.

حتى قبل مدة طويلة على إعلان إنشاء دولة إسرائيل (14 ماي 1948)، لم ينتج الحلم الصهيوني، المتمثل في تشكيل دولة من شأنها حماية اليهود من خلال إعادة الحياة لأرض إسرائيل التوراتية، سوى الكوابيس.

“أرض بدون شعب لشعب بدون أرض” -وهو الشعار الذي تبنته الدعاية الصهيونية بأشكال مختلفة- كان افتراء على حقيقة الوضع في فلسطين، بحيث يزيل الفلسطينيين من الصورة.

ومع ذلك فقد فهمت القيادة الصهيونية جيدا أن الصراع مع الأغلبية العربية للسيطرة على فلسطين كان حتميا. ديفيد بن غوريون، الذي كان أول رئيس لدولة إسرائيل، قال خلال اجتماع لهيئة صهيونية رائدة، عام 1919:

“الجميع يرى الصعوبة التي تطرحها مسألة العلاقات بين العرب واليهود. لكن ليس الجميع يرى أنه لا يوجد حل لهذه المسألة. لا يوجد حل! هناك هوة، ولا شيء يمكن أن يرأبها… لا أعرف ما إذا كان العرب سيوافقون على أن فلسطين يجب أن تعود إلى اليهود… نحن، باعتبارنا أمة، نريد أن يكون هذا البلد لنا؛ والعرب، باعتبارهم أمة، يريدون أن يكون هذا البلد لهم[1].

اعتبر الزعماء الصهاينة أن كل مستوطن يضع قدم قدمه في فلسطين هو جندي إضافي في الحرب من أجل غزو الأرض. كان كل عملهم يهدف إلى خلق الظروف التي من شأنها أن تسمح لهم بإخراج غالبية السكان العرب من فلسطين وخلق الظروف لإنشاء الدولة الإسرائيلية.

كتب ليون تروتسكي في يوليوز 1940: “إن محاولة حل المسألة اليهودية من خلال هجرة اليهود إلى فلسطين يمكن الآن رؤيتها على ما هي عليه، إنها سخرية مأساوية من الشعب اليهودي”، وذلك في إشارة منه إلى نفاق الإمبريالية البريطانية، التي شجعت الهجرة اليهودية في البداية، لتعمل بعد ذلك على محاولة وقفها بالعنف، عندما لم تعد تناسب مصالحها.

أشار تروتسكي إلى أن أي حل للمسألة اليهودية على أساس نظام رأسمالي فاسد سيصبح فخًا دمويا لمئات الآلاف من اليهود. لم يعش تروتسكي ليرى كيف ستنتهي الحرب وكيف أن توازن القوى الناشئة عنها سيؤثر على آفاق الصهيونية. فعلى أساس التوازن الجديد للقوى الناشئ عن الحرب، أصبح ما كان يبدو غير محتمل ممكنا، ثم أصبح حقيقة واقعة.

تأسست إسرائيل على أنقاض الانتداب البريطاني، وعلى سفك دماء فلسطينية وطرد 750.000 فلسطيني من أراضيهم. تأسست الدولة الجديدة على أساس الطرد والقمع المنهجيين للشعب الفلسطيني. وقد اتضح أن المشروع الصهيوني مشروع طوباوي رجعي بعواقب مأساوية. تسبب تنفيذه في جروح ما تزال مفتوحة حتى الآن، بعد أكثر من سبعة عقود.

تميز تاريخ إسرائيل، منذ تأسيسها، بسلسلة من الحروب. بدأ هذا مع ما يسمى بحرب الاستقلال 1948-1949، والنكبة. وأعقب ذلك حرب السويس عام 1956؛ ثم حرب الستة أيام عام 1967؛ وحرب عام 1973، بالإضافة إلى ثلاثة غزوات للبنان: أعوام 1978 و1982 و2006، وعمليات قصف ومناوشات لا حصر لها خلال حرب الاستنزاف، التي استمرت عقودا، مع حزب الله في جنوب لبنان، إضافة إلى ستة “حروب” (والتي هي في الغالب حملات قصف عن بعد) ضد حماس في غزة.

كما تميز تاريخ إسرائيل أيضا بحركات لا حصر لها للمقاومة الفلسطينية، بما في ذلك الانتفاضات الجماهيرية (الانتفاضة الأولى في 1987-1992 والثانية في 2000-2003) من قبل سكان الأراضي التي احتلت في عام 1967، الذين لم تتمكن إسرائيل أبدا من إخضاعهم.

وبدلا من أن تكون “الأرض الموعودة” “ملاذا آمنا” لليهود، اتضح أنها في الواقع الملموس قلعة تحت الحصار، تحيط بها شعوب معادية وأعداء. استغلت الطبقة السائدة الإسرائيلية هذه الحروب بمهارة لزرع عقلية القلعة المحاصرة عميقا بين غالبية الشعب اليهودي داخل إسرائيل وأنصار إسرائيل في الشتات.

الإرهاب الصهيوني والانسحاب البريطاني

خلال الحرب، تعاون معظم الصهاينة والقوميين العرب مع الجيش البريطاني. حارب لواء يهودي مكون من 23.000 رجل تحت قيادة الحلفاء. وبلغت الوحدة الفلسطينية 9000 رجل.

في عام 1944، كانت الأرض التي اكتسبها الصهاينة في فلسطين لا تزيد عن 06.6% من الأراضي الواقعة تحت الانتداب البريطاني. لكن الحركة الصهيونية كانت قد خرجت قوية بشكل كبير من الحرب. كانت الوكالة اليهودية، قد أصبحت في الواقع، على الأقل في شكل جنيني، شبه دولة، لديها اقتصادها المنفصل، ومؤسساتها الخاصة، وقبل كل شيء، جيشها المشكل من آلاف المقاتلين المدربين والمسلحين من قبل الحلفاء خلال الحرب.

بمجرد انتهاء الحرب، غير القادة الصهاينة تكتيكاتهم. إذ بين عامي 1945 و 1948، وحدت كل من هاغانا وإيرغون زواي ليومي (الميليشيات المسلحة لليمين الصهيوني) جهودها لشن هجمات ضد الاحتلال البريطاني والسكان العرب.

أصاب الهجوم الأكثر حدة، من بين تلك الهجمات الإرهابية الصهيونية، قلب إدارة الانتداب في الصميم. ففي 22 يوليوز 1946، قامت إيرغون، تحت قيادة ميناحيم بيغن، الذي صار رئيسا للوزراء لاحقا، بزرع ما يكفي من المتفجرات لتفجير الجناح الجنوبي لفندق الملك داود في القدس، حيث كان مقر الإدارة المدنية للانتداب البريطاني. سقط في ذلك الهجوم 91 قتيلا بينهم بريطانيون وفلسطينيون ويهود وأصيب العشرات.

هذا التصعيد المفاجئ جعل الوضع غير قابل للاستمرار بالنسبة للإمبريالية البريطانية. بريطانيا، وعلى الرغم من أنها خرجت منتصرة في الحرب العالمية الثانية، كانت قد خرجت منها منهكة، وبإمبراطورية ممزقة. وبالتالي ففي أبريل 1947، أعلنت المملكة المتحدة عن نيتها فك ارتباطها مع فلسطين في غضون عام.

أثار هذا القرار النقاش حول وضع فلسطين. كان مركز القوة الإمبريالية قد تحول بشكل حاسم لصالح القوة الصاعدة في العالم آنذاك، أي الولايات المتحدة. قام الأمريكيون بتفسير الموقف البريطاني بشكل صحيح على أنه علامة على الضعف من قبل إمبراطورية منهكة تحتضر، وبدأوا في استخدام الصراع اليهودي الفلسطيني كأداة لتوجيه الضربات للحليف السابق في الشرق الأوسط.

تم تمرير قرار الأمم المتحدة 181، في 29 نوفمبر 1947، نتيجة لضغط الولايات المتحدة. ويمكن تلخيص خطة الأمم المتحدة على أنها تقسيم فلسطين إلى ثلاث مناطق: دولة عربية (تشمل مساحة 11.500 كيلومتر مربع لـ 804.000 فلسطيني و10.000 يهودي)؛ ودولة يهودية (مساحتها 14.000 كيلومتر مربع لـ 558.000 يهودي و405.000 فلسطيني)؛ ووضع منطقة القدس تحت السيطرة الدولية.

كانت هذه الخطة طوباوية خالصة، بالنظر إلى أنه كان على الدولتين الانضمام إلى اتحاد اقتصادي فلسطيني وتبادل العملة والموارد والبنية التحتية (الموانئ، مكتب البريد، السكك الحديدية، الطرق)، كما لو أنه لم تكن هناك حروب لا حصر لها بين الصهاينة والفلسطينيين مستمرة لأكثر من عقدين.

الهجوم الصهيوني

مع استعداد المحتلين البريطانيين للخروج، أدركت القيادة الصهيونية أن لديها فرصة سانحة لملء الفراغ وتحديد شروط التقسيم وفقا لشروطها هي.

في نهاية عام 1947، أطلقت منظمات هاغانا وإيرغون وشتيرن، التي كانت قد وحدت جهودها آنذاك، حملة من الإرهاب مع سلسلة من الهجمات المنسقة على القرى الفلسطينية مما أدى إلى سقوط العشرات من القتلى المدنيين. زادت الهجمات حدة خلال الأشهر الأولى من عام 1948، واستهدفت تنورة والطيرة وسعسع وحيفا والحسينية والصرفند، مما أدى إلى سقوط المئات من الضحايا الفلسطينيين.

وفي 09 أبريل، تم ذبح سكان قرية دير ياسين، بالقرب من القدس، على يد إيرغون. وجد الصليب الأحمر 254 من الرجال والنساء والأطفال مذبوحين. بعضهم تعرضوا للتشويه وألقي بهم في آبارهم. في ما صار يطلق عليه بالمذبحة.

ونتيجة لتلك الحملة الإرهابية، التي زادت من وقعها لتهديدات والشائعات التي كان الصهاينة ينشرونها، فر مئات الآلاف من الفلسطينيين العزل من منازلهم، والتي تم هدمها لاحقا وتسويتها بالأرض لجعل عودتهم مستحيلة. ارتفع عدد اللاجئين الفلسطينيين من 60.000 إلى 350.000 في شهر واحد.

بعد ذلك ركز الإرهاب الصهيوني على المدن: في 22 أبريل، تعرضت حيفا للهجوم في منتصف الليل، مما تسبب في مقتل 50 شخصا وجرح 200. كما قُتل 100 شخص آخرين وأصيب المئات في هجوم صهيوني على قافلة من النساء والأطفال الفلسطينيين الذين كانوا يحاولون الفرار.

كيف يمكن للمرء أن يفسر مثل هذه الضراوة؟ كانت خطة الزعماء الصهاينة الوحشية هي الاستيلاء على أكبر قدر ممكن من الأراضي وجعل عودة السكان الفلسطينيين مستحيلة، من خلال تخويفهم، وممارسة الإرهاب ضدهم وإجبارهم على الفرار وتدمير منازلهم. وهذا من أجل فرض تقسيم أكثر ملاءمة لدولة إسرائيل المستقبلية.

تم إعلان قيام دولة إسرائيل في 14 ماي 1948. كان جميع القادة الصهاينة الرئيسيين متورطين في ارتكاب المذابح والإرهاب واسع النطاق. وفي هذا الصدد لا يوجد أي فرق بين اليسار الصهيوني واليمين الصهيوني.

موشيه ديان، وغولدا مئير، وديفيد بن غوريون، ومناحيم بيغن، وكثيرون غيرهم، إضافة إلى الجيل الأصغر ومن بينه أرييل شارون، وإسحاق شامير، وإسحاق رابين -الذين صاروا القادة الرئيسيين لدولة إسرائيل المستقبلية- تعلموا من تجربتهم الملموسة إلى أي مدى تعتبر القوة، التي تقوم على الحديد والنار، حاسمة في رسم السيناريوهات المحتملة في مجال الدبلوماسية الدولية. وقد استوعبوا هذا الدرس واستمروا في تطبيقه بشكل منهجي خلال العقود التالية.

النكبة

وعلى الفور، في 15 ماي، دخلت جيوش مصر والعراق وسورية ولبنان وشرق الأردن إلى فلسطين، وحققت بعض النجاحات العسكرية في المرحلة الأولى. اقترحت الأمم المتحدة هدنة في يونيو وقبلها الجانبان، لكنها لم تؤد إلا إلى مساعدة الصهاينة على تنظيم صفوفهم وإعادة التسلح.

أدى الهجوم المضاد الذي شنه الجيش الصهيوني بعد 08 يوليوز إلى كسر مقاومة القوات العربية، التي كانت سيئة التنسيق، وغالبا ما كانت تحت قيادة ضباط بريطانيين. لم يتخل قادة الأنظمة العربية قط عن محاولات التوصل سرا إلى اتفاق مع الصهاينة لخدمة مصالحهم الخاصة. فقد التقى عبد الله، ملك شرق الأردن، عدة مرات بغولدا مئير وموشيه ديان، للتفاوض على ضم الضفة الغربية إلى مملكته (وهو ما تحقق في شهر دجنبر 1948)، بينما احتل المصريون قطاع غزة.

كان القادة الصهاينة مصممين على إزالة كل العقبات. أمر مبعوث الأمم المتحدة، الكونت فولك برنادوت، إسرائيل في 13 شتنبر بإعادة قبول اللاجئين وإعادة بناء منازلهم. بعد أربعة أيام تعرض لعملية اغتيال على يد عصابة شتيرن مع مساعده الكولونيل الفرنسي سيروت.

أقرت هدنة رودس لعام 1949 هزيمة العرب، منهية ما يعتبره الإسرائيليون “حرب الاستقلال”. ومرة أخرى، فإن التاريخ الذي كتبه المنتصرون أنكر أي إشارات إلى المجازر والفظائع المرتكبة وحاول إزالتها من السجلات الرسمية.

شكلت هزيمة عام 1948بالنسبة للفلسطينيين نكبة ألقت بالجماهير الفلسطينية في حالة شلل لأكثر من عشرين عاما.

قضية اللاجئين و”عرب إسرائيل”

فر 39% من بين 750 ألف لاجئ فلسطيني إلى الضفة الغربية. وانتهى الأمر بنسبة 10% آخرين في الأردن. 26% فروا إلى قطاع غزة الذي كانت مصر تحتله، والذي شهد تضاعف عدد سكانه في غضون أسابيع. 14% من اللاجئين فروا من شمال فلسطين إلى لبنان، بينما عبر 10% منهم الجولان إلى سوريا. في حين فر عدد قليل فقط من بينهم (1% من المجموع) إلى مصر.

تم حشد جميع اللاجئين تقريبا في مخيمات “مؤقتة” ضخمة على أطراف المدن، في ظروف من العوز التام. وقد بقوا يعيشون في تلك الظروف، هم وذريتهم، حتى اليوم على الرغم من زيادة عدد اللاجئين ثمانية أضعاف.

في عام 1950، تم إنشاء وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا). ومنذ ذلك الحين، حسب أرقام الأونروا الرسمية، فإن العدد الإجمالي للاجئين المسجلين من تهجير عام 1948 وأطفالهم -ثلاثة أجيال لاحقة- وصل إلى الرقم المذهل البالغ 5.9 مليون، وهذا الرقم لا يأخذ في الاعتبار اللاجئين من حرب الأيام الستة عام 1967.

عدة أجيال لم تعرف سوى هذه المخيمات وهذه الظروف. لا يتمتع معظم الفلسطينيين، من لاجئي عام 1948 وأحفادهم، بحقوق المواطنة في البلدان التي تستضيفهم، ناهيك عن إسرائيل، ويعتمدون على الدعم الذي تقدمه الأونروا.

تقع مسألة حق عودة اللاجئين الفلسطينيين في صميم القضية الفلسطينية، لكنه لا يمكن حلها في ظل الرأسمالية. فقط الثورة الاشتراكية في الشرق الأوسط وإنشاء فدرالية اشتراكية لجميع شعوب المنطقة، مع الحق في الحكم الذاتي للأقليات، هو ما سوف يسمح بخلق ظروف مداواة الجراح المتراكمة على مدى عقود. الاشتراكية هي وحدها التي ستوفر الأساس المادي (ما يكفي من المنازل والموارد والبنية التحتية، إلخ) لتسوية المسألة، وتنهي جميع المظالم دون خلق نظام قمعي وحشي آخر.

في حين بقي حوالي 150 ألف فلسطيني في أراضيهم، داخل “الخط الأخضر”، أي الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1948. وهؤلاء يشكلون اليوم أكثر من 20% من سكان إسرائيل. قامت الدولة الإسرائيلية بمصادرة ممتلكات وأراضي الهاربين، وضربت بشكل منهجي حقوق الفلسطينيين الباقين بقوانين مثل قانون ملكية الغائبين لعام 1950، وقانون سلطة الأراضي لعام 1953، وغيرها. وفي عام 1952، مُنح العرب الإسرائيليون (الفلسطينيون داخل الخط الأخضر) الجنسية الرسمية بموجب قانون المواطنة لعام 1952.

ومع ذلك، فإنه حتى عام 1966، بقي الفلسطينيون الإسرائيليون خاضعين للأحكام العرفية، وعاشوا في حالة من العزل مع قيود هائلة على حركتهم، مما سمح للسلطات الإسرائيلية بمصادرة ممتلكات حتى أولئك الفلسطينيين الذين نزحوا داخل الخط الأخضر، لكنهم مُنعوا من العودة إلى منازلهم.

وفي غضون سنوات قليلة، تم تقليص عدد القرى الفلسطينية التي نجت من النكبة من 550 قرية إلى 100 قرية. وتعرض أكثر من 25% من الفلاحين الفلسطينيين لمصادرة أراضيهم واضطروا إلى اللجوء إلى قرى “أشباح”، تعتبرها إسرائيل غير قانونية وبالتالي يقوم الجيش بتخريبها بشكل دوري وتسويتها بالأرض، فيقوم الفلسطينيون بإعادة بنائها لاحقا. وقد تم مسح موقعها من الخرائط.

وبعد عام 1967، خففت الحكومة الإسرائيلية الضغط على المواطنين الفلسطينيين، وحاولت دمج عرب إسرائيل بشكل أكبر، مع تعزيز المكاسب الإقليمية الجديدة التي حققتها خلال حرب الأيام الستة: احتلال الأراضي في الضفة الغربية وغزة ومرتفعات الجولان والقدس الشرقية.

توطيد الرأسمالية الإسرائيلية

بالنسبة للفلسطينيين، تمثل إسرائيل نظاما معاديا، مغتصبا لأراضيهم، ومسؤولا عن الإبادة الجماعية والترحيل الجماعي. أما بالنسبة للاجئين اليهود -الذين استمروا في التدفق من أوروبا بعد المحرقة، ومن العالم العربي حيث تم كسر توازنات التعايش التي كانت قائمة منذ قرون بسبب التأثير المدمر للنكبة، مما جعل من المستحيل على مئات الآلاف من اليهود البقاء- فقد أصبحت إسرائيل على نحو متزايد أفضل فرصة لإعادة بناء حياتهم التي دمرتها الحرب والاضطهاد.

خلال الفترة الممتدة ما بين 1948 و1951، تضاعف عدد سكان إسرائيل (من 650.000 إلى أكثر من 1.400.000)، واستمر في النمو بسرعة خلال العقود التالية، وذلك بفعل الهجرة اليهودية. في عام 1978 بلغ عدد سكان إسرائيل أكثر من ثلاثة ملايين نسمة، وقد تجاوز اليوم حاجز التسعة ملايين نسمة.

تمكنت البرجوازية الصهيونية الإسرائيلية والإمبريالية من استغلال تصميم الجماهير اليهودية على بناء ما اعتبرته “ملاذا آمنا ضد الاضطهاد”. فخلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، استغلوا الأعداد الكبيرة من اللاجئين اليهود كقوة عمل رخيصة ومتجددة باستمرار في صناعاتهم، وكجنود، عند الحاجة، لضمان سيادة إسرائيل على المنطقة. ومع ذلك فإن التطور الملحوظ للرأسمالية الإسرائيلية لم يكن ليحدث لولا الإعانات والاستثمارات الأمريكية الكبرى (التي قدرت بنحو 140 مليار دولار خلال الفترة الممتدة من عام 1949 إلى منتصف التسعينيات).

وعلى الرغم من التدفق الكبير للمهاجرين، فإنه مع مرور السنين، وُلدت نسبة متزايدة من اليهود الإسرائيليين داخل إسرائيل: 27.7% في عام 1949، و44% في عام 1968، و57% في عام 1981. واليوم، تبلغ نسبة اليهود المولودين في إسرائيل 75%. واللغة العبرية، التي صممها إليعازر بن يهودا في نهاية القرن التاسع عشر، ترسخت أكثر فأكثر بين الأجيال الشابة، لتحل تدريجيا محل اللغة اليديشية عند الأشكناز واللادينو عند السفارديم. وقد تخلى العديد من الإسرائيليين من الجيل الثاني عن لغات بلدانهم الأصلية.

كانت الجماهير اليهودية بالطبع منيعة أمام الدعاية القومية للأنظمة العربية، والتي صورتهم جميعا بدون تمييز كأعداء يجب سحقهم. إن التهديد العسكري المستمر الذي تشكله الأنظمة العربية المجاورة وتكتيكات الإرهاب الفردي التي تبنتها المنظمات القومية الفلسطينية منذ منتصف الستينيات، دفعت غالبية الإسرائيليين إلى الارتماء في أحضان الدولة الصهيونية. وقد ساعد ذلك الصهيونية على تشكيل وعي قومي إسرائيلي، استنادا إلى الخوف من رغبة العرب في تدميرهم.

كان الازدهار الاقتصادي في الخمسينيات والسبعينيات، والذي تضخم بفضل المساعدات الأمريكية، يعني أن العمال الإسرائيليين (بمن في ذلك، إلى حد ما، الأقلية العربية داخل إسرائيل) تمكنوا من الوصول إلى مستوى معيشة أعلى بكثير من الجماهير العربية في البلدان المجاورة. شكلت تلك المكتسبات المادية بالنسبة للعمال الإسرائيليين مكاسب يجب الدفاع عنها، خاصة عندما تكون مهددة بهجمات خارجية.

كان الكثيرون بين الأقلية الفلسطينية في إسرائيل، على الرغم من تعرضهم لتمييز شديد، على دراية بالمشهد الكئيب للبؤس الذي توفره الأنظمة العربية الاستبدادية والرجعية.

فالنظام الملكي السعودي والكويت وقطر والإمارات العربية المتحدة، وبقية دول الخليج الغنية بالنفط، بينما استمروا يدعون أنهم “أصدقاء” للفلسطينيين ويمولون منظمة التحرير الفلسطينية، اعتمدوا على مئات الآلاف من الفلسطينيين وغيرهم من العمال المهاجرين الفقراء للعمل في ظروف شبه عبودية. إلا أنهم حرصوا على عدم منحهم أي حقوق سياسية أو نقابية، ناهيك عن حقوق المواطنة، واستغلوهم بلا رحمة.

واستمر هذا حتى أوائل التسعينيات، عندما دفعت تأثيرات حرب الخليج الأولى هذه الأنظمة إلى التخلص من العمال الفلسطينيين والتطلع إلى الهند وباكستان ونيبال كمصدر رئيسي للعمالة الرخيصة.

التناقضات الطبقية داخل إسرائيل

ودون أن ننسى هذه العوامل الأساسية التي ضمنت قاعدة معينة من الدعم للرأسمالية الإسرائيلية، خاصة عندما تكون تحت التهديد، لا بد من القول إن المجتمع الإسرائيلي كان وما يزال مجتمعا منقسما جدا وبعيدا عن التجانس.

في عام 1974، تم إجراء تحقيق حكومي بسبب الاحتجاجات العنيفة التي قام بها “الفهود السود” الإسرائيليون في أوائل السبعينيات. وقد قمعت الدولة الصهيونية تلك الاحتجاجات بقسوة. بحث التحقيق في حالة اليهود السفارديم (والذين معظمهم جاؤوا إلى إسرائيل بعد عام 1948 من شمال أفريقيا والعراق واليمن وبقية مناطق الإمبراطورية العثمانية السابقة)، والذين كانوا يمثلون نصف السكان اليهود في إسرائيل.

كشف التقرير عن وجود “إسرائيل ثانية” فقيرة ومستغَلة. كان 92% من الأطفال من أصل سفارديم يعانون من مشاكل سوء التغذية وكانوا يمثلون 90% من نزلاء السجون اليهود؛ وكان معدل تعليمهم في المدارس الثانوية 17% فقط، بينما كان 41% بالنسبة لليهود من أصل أوروبي (الأشكناز)؛ وفي الجامعات، شكل الشباب السفارديم 20% من مجموع الطلاب، مقابل 78% من الأشكناز.

كان التركيب الاجتماعي للسفارديم يتألف من 62% من الطبقة العاملة (مقابل 39% للأشكناز) و5% فقط من البرجوازيين (مقابل 14% للأشكناز). أظهر ذلك التحقيق، إلى جانب العديد من الإحصائيات الأخرى، الانقسامات العميقة الموجودة داخل إسرائيل نفسها. لم يكن من قبيل الصدفة أن التمرد الراديكالي للشباب السفارديم في إسرائيل ضد القمع والتمييز استلهم المثال من نضال الفهود السود في الولايات المتحدة الأمريكية.

وقد أصبحت الرأسمالية الإسرائيلية أكثر تكريسا للتفاوتات بشكل متزايد على مدى العقود الماضية. ففي عام 1992، كان أغنى 10% من السكان يستولون على 27% من الدخل الوطني، في حين كان أفقر 10% يملكون 2.8% فقط[1].

وقد زادت التفاوتات بشكل كبير منذ ذلك الحين. فوفقا لتقرير اللامساواة في العالم 2022، الذي ينشره مختبر اللامساواة في العالم نجد أن:

“إسرائيل هي واحدة من أكثر البلدان تفاوتا بين البلدان ذات الدخل المرتفع. يكسب الـ 50% الأدنى من السكان في المتوسط 11.200 يورو أو 57.900 شيكل جديد، في حين يكسب الـ 10% الأعلى 19 ضعفا (211.900 يورو أو 1.096.300 شيكل جديد). وبالتالي فإن مستويات التفاوت بين السكان أشبه بتلك الموجودة في الولايات المتحدة، حيث يحصل أدنى 50% من السكان على 13% من إجمالي الدخل الوطني، في حين حصة 10% الأعلى دخلا تبلغ 49%.”

لقد بنيت القوة الاقتصادية والعسكرية لإسرائيل على استغلال الطبقة العاملة الإسرائيلية والفلسطينية بدرجة لا تقل عن مثيلاتها في أي بلد رأسمالي آخر. وتظهر هذه الأرقام في الواقع ما الذي يحدث للطبقة العاملة عندما تكون منقسمة.

لقد تأسست الدولة الإسرائيلية على القمع والتمييز المنهجي ضد الفلسطينيين، لكن وفي نفس الوقت على الاستغلال المستمر للفلسطينيين والعمال الإسرائيليين العاديين، في حين يراكم الرأسماليون الإسرائيليون الثروات الهائلة.

منعطف حرب الأيام الستة

كان عام 1967 نقطة تحول في تاريخ الشرق الأوسط. إذ حتى ذلك الحين، كان لدى غالبية اللاجئين الفلسطينيين، في مختلف البلدان العربية، أمل في أن يؤدي تدخل جيوش مصر وسوريا والأردن ذات يوم إلى استعادتهم لحقوقهم.

في فجر يوم 05 يونيو، بعد شهر من المناوشات والتوترات، شنت القوات الجوية الإسرائيلية هجوما خاطفا على المطارات المصرية والأردنية، مما أدى إلى تدمير أكثر من 90% من الطيران العسكري لكلا البلدين قبل أن تتمكن الطائرات من الإقلاع. وفي اليوم نفسه، غزا الجيش الإسرائيلي الضفة الغربية وغزة، وفي غضون يومين من القتال العنيف، هزم الفيلق العربي الأردني والجيش المصري المتمركز في غزة.

وفي 06 يونيو احتلوا غزة، وفي اليوم الموالي استولوا على القدس، واستكملوا احتلال الضفة الغربية. في 10 يونيو، وبينما كان العالم العربي مذهولا، لم تقم إسرائيل بتوحيد كامل فلسطين الخاضعة للانتداب البريطاني تحت حكمها فحسب، بل احتلت الجولان السوري وسيناء المصرية، وألحقت هزيمة نكراء بأعدائها العرب، وتسببت في موجة جديدة من النزوح، لـ300 ألف لاجئ فلسطيني.

إلا أن الهزيمة الكارثية في حرب الأيام الستة لم يكن لها نفس التأثير المحبط الذي أحدثته النكبة على الشعب الفلسطيني؛ فهذه المرة تغلب الغضب على الإحباط. أدت الهزيمة العربية (بشكل لم يتوقعه على الإطلاق صانعو القرار الصهاينة) إلى محو أي وهم متبق بأن التدخل الخارجي من شأنه أن “يعيد الأمور إلى نصابها الصحيح”.

تأسست منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964 بقرار من القمة العربية. في السنوات الأولى لتأسيسها لم تكن سوى ملحق لهذه الأنظمة. وقد واجهت معارضة متزايدة من طرف منظمات المقاومة الفلسطينية الناشئة، مثل منظمة ياسر عرفات الفدائية، فتح، وأولئك الذين أتيحت لهم، مثله، فرصة تجربة سجون الأنظمة “الصديقة” في أوائل الستينيات. وفي عام 1967، عكس تشكيل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بقيادة جورج حبش، مزاج التجذر الكامن في النضال الفلسطيني.

انفضحت التيارات القومية البرجوازية العربية تماما وفقدت مصداقيتها بشكل كامل بسبب الهزيمة الساحقة في حرب الأيام الستة. وقد نشأت بين الفلسطينيين، الذين وجدوا أنفسهم فجأة تحت السيطرة الإسرائيلية المباشرة، وبين كل أولئك الذين ازدحموا في مخيمات اللاجئين في الأردن وسوريا ولبنان، أرض خصبة لانتقاد القومية العربية والأنظمة العربية. وقد أعطى هذا الغليان زخما هائلا لحركات المقاومة الفلسطينية (وخاصة فتح والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي كانت قد تشكلت حديثا)، والتي سرعان ما اكتسبت قاعدة جماهيرية في مخيمات اللاجئين.

في 21 مارس 1968، انطلق الجيش الإسرائيلي لمهاجمة مقر المقاومة في قرية الكرامة في الأردن. تمكن مقاتلو فتح، الذين كانوا على علم بالهجوم، من التصدي له. فاضطر الجيش الإسرائيلي، الذي لم يكن يتوقع أن يجد مثل هذا المستوى من المقاومة، إلى التراجع. قُتل في تلك المعركة 28 جنديا إسرائيليا وجُرح 69.

قُتل أكثر من مائة مقاتل فلسطيني، لكن هذه الحادثة أثارت موجة عاطفية ضخمة في جميع أنحاء العالم العربي لأن المقاومة الفلسطينية نجحت حيث فشلت جيوش الدول العربية دائما، أي: هزيمة الجيش الإسرائيلي للمرة الأولى. وقد دفع ذلك فتح وعرفات إلى قمة منظمة التحرير الفلسطينية، في فبراير 1969.

الأنظمة العربية التي قوضتها المقاومة الفلسطينية

فرض على اللاجئين الفلسطينيين العيش في بؤس مخيمات اللاجئين المكتظة. وصل عددهم إلى مليون ونصف المليون عام 1968. واستخدم الرأسماليون في مختلف البلدان اللاجئين كعمالة رخيصة، وأخضعوهم لظروف مهينة. لكن صعود المقاومة في أواخر الستينيات أعاد للفلسطينيين كبرياءهم، وحوّل المخيمات إلى معاقل لمنظمات المقاومة.

تسبب ذلك في تعريض المخيمات والبلدان المضيفة لأعمال انتقامية إسرائيلية عنيفة. وقد تفاقمت الاحتكاكات المستمرة بين المقاومة وبين حكومات البلدان المضيفة بسبب انتشار الأفكار الثورية بين الفلسطينيين، الذين تصور الكثير منهم الثورة الفلسطينية باعتبارها جزءا من ثورة عربية أشمل ذات طابع اشتراكي. وهذه المواقف، التي عززتها المكانة المتزايدة للمقاومة الفلسطينية، لاقت صدى كبيرا لدى الجماهير اللبنانية والأردنية.

انفجرت الأزمة الأولى في عام 1969 في لبنان، الذي كان يعاني بالفعل من انقسام عميق بسبب التوترات بين الأقلية المسيحية المارونية. وقد تطورت الاحتكاكات بين المقاومة وبين الحكومة اللبنانية في خريف عام 1969 إلى عدة أيام من القتال المرير الذي خرج فيه الجيش اللبناني خاسرا. ووضع اتفاق القاهرة نهاية مؤقتة للمواجهة.

أيلول الأسود

حدثت سيرورة مماثلة في الأردن. إن الاشمئزاز المتزايد من العلاقات الوثيقة بين نظام الحسين الملكي الهاشمي وبين الإمبريالية الأمريكية، إضافة إلى ظروف القمع التي كانت تعيشها الغالبية العظمى من السكان، صب في احتمال قيام ثورة فلسطينية.

حاولت منظمة التحرير الفلسطينية جاهدة تجنب الصدام المباشر مع الملك حسين، لكن الصعود الثوري للجماهير الأردنية تغلب على كل العقبات. لكن الحركة الجماهيرية واجهت النظام الأردني بدون قيادة حقيقية، بسبب تردد منظمة التحرير الفلسطينية.

ابتداء من صيف عام 1970، تصاعدت سلسلة الاشتباكات بين المقاومين الفلسطينيين وبين الجيش الأردني. وقد كانت سلسلة عمليات اختطاف الطائرات (بان آم، والخطوط الجوية السويسرية، والخطوط الجوية البريطانية، دون وقوع إصابات بين المدنيين) من طرف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، هي الذريعة التي استعملها الحسين لتبرير القمع أمام الرأي العام العالمي.

كانت للمقاومة الفلسطينية اليد العليا، وفي غضون أسبوعين احتلت جزءا كبيرا من العاصمة عمان. قام الحسين بتعيين حكومة عسكرية في 16 شتنبر، والتي شنت، فجر اليوم التالي، هجوما كاسحا على مخيمات اللاجئين الفلسطينيين.

قامت وحدات جيش البدو (الأقل تأثرا بالمزاج الثوري) بقيادة اللواء المجالي، بقصف المعسكرات بقذائف الفوسفور والنابالم وانتشرت الدبابات في أحياء الطبقة العاملة في عمان. لكن وعلى الرغم من عدم تناسب القوى العسكرية، فقد كانت المقاومة شرسة للغاية إلى درجة أن القتال استمر قرابة أسبوعين آخرين، مما اضطر الحسين إلى السعي للتوصل إلى اتفاق في 27 شتنبر 1970، والذي على اثره قبلت المقاومة الفلسطينية مغادرة الأردن والانتقال إلى لبنان.

لم يُعرف على الإطلاق العدد الدقيق لضحايا “أيلول الأسود” الأردني. تتحدث المصادر الفلسطينية عن مقتل 20 ألف شخص، بينما تتحدث مصادر أخرى عن مقتل ما بين 5000 و 10000 آلاف، معظمهم من السكان المدنيين.

تعرض موقف قادة منظمة التحرير الفلسطينية وعرفات لانتقادات شديدة من قبل قطاع كبير جدا من الحركة الثورية الفلسطينية، التي خرجت من الأحداث الأردنية في حالة يرثى لها. انتشر بين الفلسطينيين الإحباط والغضب من المذبحة التي ارتكبها الحسين ومن صمت البلدان العربية الأخرى، مما أتاح المجال لتطور تشكيلات إرهابية متطرفة، مثل تأسيس جماعة أيلول الأسود الإرهابية.

المنعطف الدبلوماسي لمنظمة التحرير الفلسطينية

لم تؤد الهزيمة الأردنية إلى التغلب على أوجه القصور الأساسية لحركة المقاومة الفلسطينية. إن مفهوم النضال من أجل التحرير “القادم من الخارج” أعطى الجماهير الفلسطينية في الأراضي المحتلة مجرد دور سلبي. ومن المفارقة أن التزام منظمة التحرير الفلسطينية بسياسة “عدم التدخل” في الشؤون الداخلية للدول العربية قد تعزز أكثر.

حصر النضال في إطار وطني بحت، وتأجيل طرح السؤال حول طبيعة المجتمع الذي يجب بناؤه في فلسطين بعد التحرير إلى أجل غير مسمى، سمح لمنظمة التحرير الفلسطينية بالحفاظ على وحدة زائفة مع الأنظمة العربية، لكنه لم يتمكن أبدا من حمايتها من التعرض للخيانة من طرف تلك الأنظمة نفسها. كلما حاولت الجماهير العربية تحرير نفسها من قيودها واصطدم النضال الفلسطيني بالمصالح الأساسية لمضطهِديها، كلما تعرضت للخيانة.

تحت قيادة عرفات، تمكنت منظمة التحرير الفلسطينية، في نهاية المطاف، من الحصول على الدعم الجماهيري بين الفلسطينيين. لكن، وفي مواجهة الضغوط الدبلوماسية الدولية، وخاصة من جانب الأنظمة العربية، انعطف عرفات 180 درجة، فتخلى عن فكرة أن النضال من أجل التحرر يجب أن يحققه الشعب الفلسطيني نفسه، لصالح مفهوم الكفاح المسلح باعتباره وسيلة لـ”ممارسة الضغط” على الدبلوماسية الدولية.

يوم 06 أكتوبر 1973، عشية احتفال اليهود بيوم الغفران، هاجمت مصر وسوريا إسرائيل. تفاجأ الجيش الإسرائيلي وتلقى ضربة قوية. شاركت قوات المقاومة الفلسطينية في القتال في الأراضي المحتلة، كما شاركت في الحرب وحدات أردنية وعراقية ومغربية ووحدة تونسية رمزية. وقد ساهمت النجاحات الأولية التي حققتها القوات العربية في تعويض هزيمة 1967 المخزية في نظر الجماهير العربية.

كان لحرب يوم الغفران تأثير عميق على المجتمع الإسرائيلي من خلال تحطيم الثقة في كون الجيش الإسرائيلي جيشا لا يقهر. ومع ذلك فقد قام الجيش الإسرائيلي في نهاية المطاف بإعادة تنظيم صفوفه واستعادة الأراضي المفقودة، وفي 22 أكتوبر تم التوصل إلى هدنة عند نقطة كانت فيها إسرائيل قد استعادت بالفعل التفوق.

تعزز “التحول الدبلوماسي”. وفي 27 نوفمبر 1973 اعترفت القمة العربية بمنظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها “الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني”.

التعديلات التي أدخلت على الميثاق الوطني الفلسطيني، في ماي 1974، طرحت لأول مرة احتمال التحرير الجزئي لفلسطين (والاعتراف الضمني بإسرائيل).

في 13 نوفمبر 1974 استدعي عرفات لإلقاء خطاب في الأمم المتحدة عمل في خطابه الشهير على إدانة الصهيونية، لكنه قال: “اليوم، جئت إليكم وأنا أحمل غصن زيتون في يدي، وفي اليد الأخرى أحمل بندقية الثائر، فلا تسقطوا غصن الزيتون من يدي”.

لقد سمحت الانعطافة التي قام بها عرفات للأنظمة العربية الخائنة باستعادة زمام المبادرة مرة أخرى، وهي الانعطافة التي جاءت  حتى على حساب تقويض المصدر الوحيد للقوة الحقيقية للمقاومة، أي جذورها بين الجماهير الفلسطينية.

الثورة والثورة المضادة في لبنان

على الرغم من التجربة الأردنية واشتباكات 1969، فإن المقاومة الفلسطينية في لبنان أصبحت واثقة من قوتها الآخذة في الاتساع. كان لبنان ممزقا بانقسامات عميقة بين الطبقة السائدة المسيحية المارونية التي نصبها الفرنسيون، وبين مختلف الفصائل البرجوازية والبرجوازية الصغيرة المسلمة.

وكما كان عليه الحال في الأردن، فقد سار نمو سلطة المقاومة الفلسطينية جنبا إلى جنب مع صعود المشاعر الثورية بين الجماهير اللبنانية. كان الفلسطينيون في مخيمات اللاجئين قد أصبحوا جزءا لا يتجزأ من الطبقة العاملة اللبنانية.

كان الرأسماليون اللبنانيون يستغلون قوة عمل العمال الفلسطينيين منذ سنوات عديدة، وكانوا ينقلون المخيمات بالقرب من المدن، وحاولوا استخدام اللاجئين لضرب المنظمات العمالية اللبنانية القوية. لكن هذه الحسابات الكلبية سرعان ما أدت إلى الالتحام بين حركة التحرر الفلسطينية وبين التطلعات الثورية للعمال اللبنانيين.

أدى النقل القسري لآلاف مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية من الأردن إلى تحويل لبنان إلى قاعدة رئيسية للمنظمة. كانت أحياء بيروت بأكملها خاضعة لسيطرة منظمة التحرير الفلسطينية، التي ظهرت كقوة بديلة للدولة، بينما كانت تتمتع بدعم واسع بين الجماهير اللبنانية. وبفضل التمويل الذي تم جمعه لدعم المقاومة، ازدهرت حول منظمة التحرير الفلسطينية العديد من المؤسسات الاجتماعية والمدارس والمستشفيات، والتي غالبا ما كانت تقدم خدمات أعلى جودة مما كانت تقدمه الدولة اللبنانية. وكانت الاستفادة من جميع تلك المؤسسات متاحة لجميع السكان.

وفي منتصف السبعينيات، انهار التوازن الهش واندلعت “حرب أهلية” أشعلتها الطبقة السائدة المسيحية المارونية والجيش وميليشيات الكتائب المسيحية وحلفائهم. كانت تلك في الواقع حربا مضادة للثورة، لإعادة تأكيد سيطرة الطبقة السائدة على المجتمع. وكان لا بد من سحق الجماهير اللبنانية ومنظماتها، مثل الحركة الوطنية اللبنانية بزعامة كمال جنبلاط، وكذلك حركة المقاومة الفلسطينية. كما تدخلت إسرائيل بتوغلات متكررة في جنوب لبنان لضرب المقاومة.

في 26 يناير 1975، تدخل المقاتلون الفلسطينيون للدفاع عن إضراب صيادي صيدا ضد محاولات الجيش لقمعه. وأجبرت المقاومة الفلسطينية رجال القوى الأمنية اللبنانية على التراجع، مخلفة عشرة قتلى في الميدان.

استخدمت الكتائب المسيحية القبضة الحديدية ضد منظمة التحرير الفلسطينية. وفي فبراير، قُتل النائب اللبناني المؤيد للفلسطينيين، معروف سعد، برصاص الجيش اللبناني حسب ما ورد. وفي 13 أبريل، أدت محاولة اغتيال زعيم الكتائب، بيار جميل، إلى انتقام فوري من قبل الكتائبيين الذين اعترضوا حافلة متجهة إلى مخيم تل الزعتر للاجئين، وذبحوا، بدم بارد، جميع ركابها البالغ عددهم 27 راكبا، مما أشعل القتال في جميع أنحاء بيروت.

طوال عام 1975، كان موقف منظمة التحرير الفلسطينية يقتصر على مساعدة ميليشيات اليسار اللبناني بالدعم اللوجستي والأسلحة. ولم يؤد تكتيك “الانتظار والترقب” الذي اتبعته منظمة التحرير الفلسطينية إلا إلى إطالة أمد الصراع، لكن قرار الكتائب بمحاصرة مخيمي اللاجئين في ضبية وتل الزعتر أجبر مجموعات المقاومة الفلسطينية المسلحة على دخول الصراع بكامل ثقلها. تمت مطاردة الكتائبيين الرجعيين في الجبال حتى أصبحوا على وشك الهزيمة. عند هذه النقطة، حدث انقلاب مذهل في المواقف.

عند الإعلان عن احتمال تشكيل حكومة ثورية لليسار اللبناني، انهارت الجبهة العربية لـ”أصدقاء” النضال الفلسطيني. كانت مصر والأردن خائفتين من احتمال انتشار الثورة في جميع أنحاء الشرق الأوسط. ومع ذلك، جاءت الخيانة العلنية من حيث لم تكن متوقعة. اتخذ “بطل النضال ضد الإمبريالية”، رئيس سوريا البعثي، حافظ الأسد، انعطافة مذهلة، حيث أرسل قوات سورية لدعم الكتائبيين في يونيو 1976.

قلب التدخل السوري موازين القوى بشكل عنيف. فاضطرت المقاومة إلى التراجع إلى المدن، متكبدة خسائر فادحة، في حين فرض الكتائبيون، بحماية الجيش السوري، حصارا مرة أخرى على مخيم تل الزعتر. وبعد 52 يوما من الحصار، في 12 غشت، استسلم تل الزعتر فانتقم الكتائبيون والسوريون منهم بذبح ثلاثة آلاف فلسطيني أثناء محاولتهم إخلاء المخيم.

سوريا، التي كانت آنذاك النظام الأكثر “تقدمية” بين جميع الأنظمة العربية، لم تتردد عندما تعرضت للتهديد، ولو بشكل غير مباشر من احتمال تطور الثورة، في الوقوف إلى جانب الجناح الأكثر رجعية في معسكر الثورة المضادة البرجوازية ضد نفس المقاومة الفلسطينية التي كانت لسنوات تمولها وتستضيف مقراتها في دمشق ولبنان.

ووقفت الطغم الحاكمة في الجامعة العربية تراقب مرتاحة من دون أن تحرك ساكنا. وبعد 19 شهرا من الحرب ومقتل 60 ألف شخص، تم تقسيم لبنان إلى مناطق تحصن في كل منها مختلف المتنافسين في هدنة مسلحة هشة. وعلى الرغم من خيانة الأسد، فقد أنفقت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وقتها في مفاوضات مذلة لرأب الصدع وإعادة تشكيل “الجبهة العربية”.

الغزوات الإسرائيلية على لبنان

بالنسبة لإسرائيل، كان مجرد وجود المقاتلين الفلسطينيين على الأراضي اللبنانية أمرا لا يطاق. وفي 14 مارس 1978، غزت إسرائيل جنوب لبنان وفي غضون أيام تغلبت على المقاومة الفلسطينية (التي تخلى عنها الجيش اللبناني).

إلا أن رئيس الوزراء الاسرائيلي آنذاك، بيغن، قرر الانسحاب تحت ضغط من الرئيس الأمريكي جيمي كارتر، الذي كان قد قرر دعم المفاوضات الثنائية السرية بين السادات وبيغن. كان الهدف من ذلك تطبيع العلاقات بين إسرائيل ومصر. وهي الصفقة التي تم التصديق عليها رسميا في كامب ديفيد يوم 18 شتنبر 1978.

لكن بالنسبة لإسرائيل، لم يكن قد تم حل المشكلة. وفي 06 يونيو 1982، شن الجيش الإسرائيلي غزوا ثانيا واسع النطاق على لبنان، بقيادة آرييل شارون، وزير الدفاع في حكومة بيغن. تحول الغزو إلى حمام دم. ففي غضون ساعات، سقط طوفان من نيران سلاح الجو الإسرائيلي على المدن ومخيمات اللاجئين، بينما تقدمت أرتال الدبابات نحو بيروت، مخلفة وراءها سلسلة من الموت والدمار: 14 ألف ضحية خلال الأسبوعين الأولين فقط.

أحاط الجيش الإسرائيلي ببيروت الغربية في حصار مميت استمر 78 يوما، تم خلالها حظر جميع الإمدادات وقصف المدينة بلا هوادة. لكن مقتل 7000 مدني لبناني، وعدد غير محدد من الضحايا الفلسطينيين (الذين لم يتم إحصاء عددهم الحقيقي أبدا) لم يكن كافيا لكسر شوكة المقاومة.

سمح هذا الجمود للدبلوماسية الإمبريالية بالتدخل والتفاوض على الإخلاء الكامل للمقاومة الفلسطينية من لبنان. وفي نهاية غشت 1982، غادر أكثر من 10.000 مقاتل فلسطيني بيروت تحت أعين القوات الفرنسية والإيطالية والأمريكية، لكن الثمن الذي دفع للحفاظ على هياكل منظمة التحرير الفلسطينية كان باهظا للغاية.

تم ترك السكان اللبنانيين وعشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين واصلوا العيش في ازدحام مخيمات اللاجئين، تحت رحمة قوات الكتائب، وميليشيات أمل الشيعية الموالية لسوريا، والجيش السوري والجيش الإسرائيلي، مع ضمانة وحيدة تمثلت في ميثاق كتب على الرمال ولم تكن لأحد مصلحة في احترامه.

كان الانتقام الإسرائيلي فوريا وفظيعا. إذ ما بين 16 و18 شتنبر، وبمجرد مغادرة فرقة “السلام” الدولية للبنان (بعد نزع سلاح من تبقى من المقاتلين الفلسطينيين وإجلائهم)، قامت الكتائب اللبنانية، طيلة 40 ساعة، وبحماية من الجيش الإسرائيلي، بذبح 3000 لاجئ فلسطيني أعزل من خلال تدمير مخيمي صبرا وشاتيلا في بيروت.

وبحسب ما ورد في التقارير فقد كان أرييل شارون يتابع العملية من أعلى مبنى على بعد 200 متر من جدار مخيم شاتيلا. وكما فعل السوريون قبل ست سنوات في تل الزعتر، اكتفى الجيش الإسرائيلي بتقديم الدعم اللوجستي للكتائب، وإضاءة المنطقة بالمشاعل، وسد جميع طرق الهروب من المخيمات، وإطعام ومساعدة الكتائبيين الذين كانوا ينفذون المذبحة.

أحدثت مذبحة صبرا وشاتيلا موجات صدمة في المجتمع، حتى أنها وصلت إلى إسرائيل. ففي 25 شتنبر 1982، اندلعت مظاهرة حاشدة في شوارع تل أبيب، ضمت 400 ألف شخص، احتجاجا على دور الجيش الإسرائيلي وشارون في المذبحة. تم إجراء تحقيق رسمي لنزع فتيل الحركة والتغطية على دور الجيش الإسرائيلي في المذبحة، لكن حتى ذلك التحقيق لم يتمكن من إخفاء المسؤولية الشخصية لأرييل شارون، الذي اضطر إلى الاستقالة.

انتقلت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية إلى تونس، حيث عاش عرفات وحاشيته في المنفى الذهبي إلى أن انتقلوا إلى غزة في عام 1994. كانت كل طاقاتهم مكرسة لاستنباط استراتيجيات التفاوض والتلاعب بالخصومات بين الأنظمة العربية، فضلا عن إعادة إرساء أسس علاقات طبيعية مع ممالك الخليج.

أصبحت سياسة منظمة التحرير الفلسطينية تعتمد بشكل متزايد على مقايضة الاستقرار في الشرق الأوسط مقابل التنازلات. صار عرفات يعتمد على المقاومة من أجل الحصول على نفوذ على طاولة المفاوضات، في عيون الإمبرياليات الأمريكية والأوروبية، بل وصار يعتمد بشكل متزايد على التكتيكات الإرهابية الفردية (التي كانت منظمة التحرير الفلسطينية قد أدانتها رسميا)، مع تراجع قوة حركة المقاومة الجماهيرية بعد الهزيمة.

الأراضي المحتلة عشية الانتفاضة

خلال عشرين عاما من الاحتلال العسكري، كانت الأراضي المحتلة بالنسبة لإسرائيل سوقا إضافية لتصريف منتجاتها ومصدرا للعمالة غير الماهرة. وقد كان أحد العوامل المهمة في قرار احتلال الضفة الغربية ومرتفعات الجولان هو الاستيلاء على موارد المياه في المنطقة. كان آخر شيء تريده إسرائيل هو أن تطور الأراضي المحتلة حياة خاصة بها.

نفذت الحكومة الإسرائيلية سياسة خنق تدريجي لاقتصاد الأراضي المحتلة، الذي كان مرتبطا في الغالب بالزراعة، مع بعض الحرف اليدوية الصغيرة. أدى ذلك إلى تقويض سبل عيش الفلاحين والعمال الزراعيين، الذين اضطروا إلى تضخيم صفوف الـ 120 ألف فلسطيني الذين يتنقلون يوميا للعمل في إسرائيل (ثلث القوة العاملة في الضفة الغربية و50% من القوة العاملة في غزة). وقد استخدمت الدولة الإسرائيلية الحاجة إلى عبور “الخط الأخضر” سلاحا للانتقام من العمال الفلسطينيين، مع التهديد المستمر بإغلاق الحدود حسب هواها.

كان اقتصاد تلك المناطق (وما يزال) يعتمد بشكل كامل على إسرائيل حتى في السلع الاستهلاكية الأساسية. لقد أدت تلك السياسة الإسرائيلية إلى توثيق الارتباط الاقتصادي الطبيعي والتاريخي بين الأراضي المحتلة وبين بقية فلسطين. ففي عام 1970، كان 82% من الواردات تأتي من أصل إسرائيلي، وارتفعت هذه النسبة إلى 91% في عام 1987.

كما ساهم مئات الآلاف من الفلسطينيين في الخارج في زيادة تدفق التحويلات المالية إلى أسرهم، والتي بلغت 37% من الناتج المحلي الإجمالي للأراضي المحتلة في ذلك الوقت. وما تزال تلك التحويلات المالية تمثل جزءا كبيرا (حوالي 20%) من الناتج المحلي الإجمالي للضفة الغربية وقطاع غزة حتى اليوم. ومن المفارقة أن هذا قد ساعد في الحفاظ على سوق يمكن تصدير فوائض الإنتاج الإسرائيلي إليها.

خلال السنوات العشر الأولى من الاحتلال لم يتجاوز إجمالي عدد المستوطنين 7000 مستوطن. لكن ومع صعود حزب الليكود اليميني الصهيوني إلى السلطة عام 1977، تصاعدت سياسة الاستيطان بسرعة. وعلى مدى السنوات العشر التالية، تم بناء 18 ألف منزل و139 مستوطنة على الأراضي الفلسطينية، لإيواء ما مجموعه 80 ألف مستوطن. وتم إنشاء شبكة من الطرق الخاصة لفصل المستوطنين عن الفلسطينيين، مما أدى إلى تقييد حرية تنقل الفلسطينيين بشدة. وأصبح الوجود المتزايد للمستوطنين اليهود المظهر الأكثر بشاعة للاحتلال.

شهد السكان الفلسطينيون في الأراضي المحتلة انفجارا ديمغرافيا ملحوظا خلال عشرين عاما من الاحتلال. ففي عام 1987، كان 75% من السكان تحت سن 25 عاما، و50% تحت سن 15 عاما. وعشية الانتفاضة لم تكن الأغلبية الساحقة تعرف شيئا سوى نظام الاحتلال الإسرائيلي الذي لا يطاق والمهين والقمعي.

الانتفاضة

بعد مرور أربعة عقود على النكبة، وعشرين عاما على حرب الأيام الستة، كانت آفاق النضال الوطني الفلسطيني تبدو قاتمة. الحركات الثورية في الأردن ولبنان كان قد تم قمعها بطريقة دموية، وتحطمت المقاومة الفلسطينية. ولم تسفر التضحيات الهائلة التي قدمتها الجماهير الفلسطينية في مخيمات اللاجئين عن أي نتيجة ملموسة. وكانت إسرائيل قد أحكمت قبضتها على فلسطين بأكملها.

كانت الفجوة المتسعة بين قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في تونس وبين الواقع في المناطق المحتلة قد أصبحت من الضخامة بحيث لم يتم اكتشاف العديد من العلامات على تغير المزاج على الأرض حتى من قبل عرفات الذي عادة ما كان شديد البصيرة.

قبل بضعة أشهر من الانتفاضة، أشار تقرير صادر عن معهد قاعدة بيانات الضفة الغربية، التابع لعالم الاجتماع الإسرائيلي ميرون بنفينستي، إلى ما يلي:

“أصبح العنف على نحو متزايد من عمل مجموعات غير منظمة وعفوية… بين أبريل 1986 وماي 1987، تم تسجيل 3150 حادثة عنف، تتراوح بين مجرد إلقاء الحجارة على حواجز الطرق، ونحو مائة اعتداء بالمتفجرات أو الأسلحة النارية”.

وقد ظهر المزاج الكفاحي المتزايد للسكان الفلسطينيين تحت الاحتلال في 05-06 يونيو، عندما تم تنظيم إضراب عام بمناسبة الذكرى العشرين للاحتلال الإسرائيلي.

في 07 دجنبر 1987، حدث شيء غير متوقع على الإطلاق لا من قبل المخابرات الإسرائيلية ولا من قبل قادة منظمة التحرير الفلسطينية: حادث، مشابه للعديد من الأحداث الأخرى، أدى إلى انتفاضة عفوية لعشرات الآلاف من الشباب والعمال ضد الاحتلال الإسرائيلي في قلب الأراضي المحتلة، التي كان قادة منظمة التحرير الفلسطينية قد شطبوها من حساباتهم كمسرح للنضال الجماهيري.

اصطدمت شاحنة تابعة للجيش الإسرائيلي بسيارة مدنية، مما أدى إلى مقتل أربعة عمال فلسطينيين. وسواء كان ذلك عملا انتقاميا متعمدا من قبل الجنود لمقتل إسرائيلي في غزة في اليوم السابق، أو أنه كان مجرد حادث، فلا فرق. كانت تلك هي القشة التي قسمت ظهر البعير، وأشعلت الشرارة المواد المتفجرة التي راكمها الاحتلال الإسرائيلي طوال عشرين عاما.

إن كلمة “الانتفاضة” تصف بشكل جيد رد فعل الجماهير الفلسطينية. وبمجرد أن بدأت الانتفاضة، تمكنت في غضون ساعات من زعزعة توازن القوى القائم منذ فترة طويلة، وازدادت قوتها بمرور الوقت، مما شكل اختبارا قاسيا لقوات الاحتلال. كان للانتفاضة أيضا تأثير عالمي هائل وأثارت التعاطف داخل إسرائيل بين عرب إسرائيل، واشمئزازا متزايدا بين قسم من الشباب اليهودي بسبب الأساليب الوحشية التي استخدمها الجيش في قمعها.

حتى القمع الأكثر وحشية أثبت عدم فعاليته. وقامت إسرائيل بشكل منهجي بتنفيذ الاعتقالات الإدارية لمدة تصل إلى سنة دون تهمة أو محاكمة. تم اعتقال تسعة آلاف شخص في غضون أشهر قليلة؛ مئات القتلى وآلاف الجرحى؛ وهدم المنازل والانتقام من عائلات القتلى والمعتقلين؛ وتم تنظيم الأعمال الانتقامية الجماعية على القرى والأحياء -والتي توجت بالأمر الذي أصدره وزير الدفاع الإسرائيلي رابين بـ”كسر أذرع وأرجل” أولئك الذين يتم القبض عليهم وهم يرشقون الحجارة (معظمهم من الأطفال)-، لكن هذا المستوى الوحشي من القمع لم يخدم أي غرض، باستثناء صب المزيد من الوقود على نار الثورة.

اتخذ النضال شكل إضرابات عامة، ومتاريس على الطرق، وكمائن للدوريات الإسرائيلية التي استهدفها الشباب بالحجارة، والذين أطلق عليهم اسم أطفال الحجارة. اتخذ النضال أشكالا من العصيان المدني مثل الامتناع عن أداء الضرائب ورفض احترام أوقات فتح المحلات التجارية التي قررتها السلطات الإسرائيلية. وفي القدس الشرقية، حاول الجيش الإسرائيلي، دون جدوى، إجبار المتاجر على فتح أبوابها خلال فترة الإغلاق. وحتى أصحاب المتاجر الذين تعرضوا للتهديد وفتحوا أبواب محلاتهم، كانوا سرعان ما يغلقونها مرة أخرى بمجرد مغادرة الجنود.

منذ الأيام الأولى للانتفاضة، ظهرت اللجان الشعبية بشكل عفوي في كل مكان. قامت في البداية بتنسيق تحركات مجموعات الشباب التي تواجه قوات الاحتلال ودوريات الجيش الإسرائيلي والشرطة بالمقاليع والإطارات المشتعلة. ومع استمرار النضال، بدأت تلك اللجان الشعبية تقوم أيضا بتوزيع الإمدادات الأساسية أثناء الإضرابات والإغلاقات، وأنشأت مجموعات مكلفة بحراسة المجتمعات المحلية.

جمعت تلك الأجهزة ونظمت الناشطين الشباب والعمال (الغالبية العظمى منهم لم تكن تنتمي إلى المنظمات الموجودة مسبقا)، وتولت قيادة النضال، مع الاهتمام بكل الاحتياجات المباشرة للسكان، والمهام التي يتطلبها النضال.

تم تشكيل لجان محددة لتنظيم جوانب محددة من جوانب النضال. وأقيمت مراكز صحية في الأحياء والقرى، وأعيد تنظيم التعليم بعد أن أغلقت سلطات الاحتلال المدارس بجميع مراحلها في فبراير 1988. تم تحديد معدلات الربح المهنية والإيجارات والأسعار. ونظموا المعركة ضد الاحتكار، ومقاطعة المنتجات الإسرائيلية؛ وتوزيع الإمدادات التي تعرف ندرة؛ حتى أنهم حاولوا مواجهة أزمة الغذاء من خلال تطوير زراعة معاشية وتربية الماشية. وتم إنشاء محاكم شعبية. وقد لعبت النساء دورا رئيسيا في عمل تلك اللجان.

لكن وبسبب ثقل الاحتلال العسكري، لم تتمكن اللجان من الوصول إلى كامل إمكاناتها لتصير سلطة بديلة للسلطات الاستعمارية من خلال التنسيق على المستوى العام. ومع ذلك، فإن تلك الهياكل شكلت طوال المرحلة الأولى من الانتفاضة، الأجهزة التي عبرت الجماهير من خلالها عن قوتها وكفاحيتها.

وفي ماي 1988، أي بعد ستة أشهر على انطلاق الانتفاضة، قدرت المصادر الإسرائيلية أن هناك 45 ألف لجنة نشطة. وكانت قد بدأت بالتنسيق في ما بينها على مستوى المدينة، في حين تم على الفور إنشاء قيادة موحدة للانتفاضة بمبادرة من الأحزاب الرئيسية في اليسار الفلسطيني (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، والحزب الشيوعي الفلسطيني).

وخلافا لما زُعم لاحقا، فإن قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في تونس كانت قد تفاجأت تماما بتلك التطورات المتفجرة للتعبئة الثورية في الأراضي المحتلة. وطيلة عام كامل من وجودها كانت القيادة الموحدة تتجاهل إلى حد كبير توجيهات عرفات، وذلك إلى أن أدى القمع الإسرائيلي إلى قطع رأس الحركة وحرمانها من قياداتها الأصلية، في شتنبر 1988.

الانقسامات الإسرائيلية

تحرك أقوى جيش في المنطقة لكي يقمع أطفالا لا يمتلكون سوى الحجارة والشجاعة. شكل ذلك صدى للأسطورة التوراتية عن قتال داوود ضد جالوت، كان الاختلاف الوحيد هو أن داوود أصبح فلسطينيا.

كانت قوات الاحتلال تنفذ بشكل روتيني عمليات تفتيش لمصادرة وحرق “الأسلحة” مثل الكتب المدرسية والأدوية والإمدادات الطبية، وتدمير الحدائق التي انتشرت في كل مكان لإطعام السكان الذين يعيشون في ظروف حرمان شديد. وقد هز ذلك ثقة جنود الجيش الإسرائيلي الشباب وأثار نفورا متزايدا من الاحتلال بين شرائح الشباب الإسرائيلي.

وصلت الانقسامات الحادة إلى أعلى مستوياتها في مارس 1988، مع تشكيل “مجلس السلام والأمن” من قبل مجموعة من الجنرالات الإسرائيليين المتقاعدين، والذي لخص موقفه الجنرال أور، القائد الأعلى السابق للجيش الإسرائيلي في المنطقة الشمالية (لبنان)، حيث قال: “جميعنا متفقون على أن الاحتلال يجب أن ينتهي، لأن الإبقاء عليه يشكل خطرا على أمننا أكبر بكثير من الخطر الذي يشكله إنهائه”[2].

تم التوقيع على العريضة من قبل رئيس الموساد السابق (ياريف) والمدير السابق للضفة الغربية (سنيه)، بالإضافة إلى 30 جنرالا و100 عميد، أي نصف جنرالات جيش الاحتياط.

لكن شامير قرر الخروج من الأزمة من خلال مضاعفة حملة القمع في المناطق المحتلة. وفي غشت 1988، تم حظر اللجان الشعبية، وصدرت أحكام بالسجن تصل إلى 10 سنوات على أعضائها. وبدأت الانتفاضة، بعد مرور عام على انطلاقها، تعاني من ضربات القمع وتدهور الأوضاع الاقتصادية.

في أواخر عام 1988 اعترفت القيادة الموحدة بسلطة منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها “الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني”. وفي 15 نوفمبر، أعلن عرفات قيام الدولة الفلسطينية المستقلة في الأراضي التي تحتلها إسرائيل، وبعد فترة وجيزة شرعت منظمة التحرير الفلسطينية في استعادة السيطرة على الحركة في المناطق المحتلة. وتم دمج اللجان في هياكل الرعاية الاجتماعية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وتم تجريدها من دورها كأجهزة جنينية لسلطة الجماهير الفلسطينية.

وجه ذلك ضربة قاصمة للطابع الجماهيري للانتفاضة وفتح مرحلة ثانية أصعب من الانتفاضة التي اتخذت منحى يائسا بين شريحة من الشباب. وليس من قبيل الصدفة أنه مع تراجع الطابع الجماهيري للانتفاضة، زاد دور التشكيلات الإسلامية مثل حماس والجهاد الإسلامي فيها.

حماس

لم يلعب الإخوان المسلمون أي دور في المرحلة الأولى من الانتفاضة. تم إنشاء حماس كمنظمة منفصلة بعد اندلاع الانتفاضة، وذلك لحماية مصالح المجمع الإسلامي، وهو التنظيم الذي أسسه زعيم جماعة الإخوان المسلمين في غزة: الشيخ أحمد ياسين.

عام 2009، أصدرت صحيفة وول ستريت جورنال مقالة هامة كتبها أندرو هيغنز، سلطت الضوء على الدور الذي لعبته إسرائيل في رعاية ما سيصبح لاحقا منظمة حماس.

بعد عقدين من القمع على يد النظام المصري، وجدت جماعة الإخوان المسلمين ظروفا مواتية للازدهار في قطاع غزة الذي تحتله إسرائيل. سمحت إسرائيل للمجمع الإسلامي بالوجود كمؤسسة خيرية والعمل بشكل قانوني طوال السبعينيات والثمانينيات، حيث قام بمراكمة الأموال والعقارات.

وانتظمت حول التنظيم شبكة من المدارس والنوادي والمساجد والجامعة الإسلامية في غزة، والتي وفرت لجماعة الإخوان المسلمين البيئة المثالية لتطوير أنشطتها. كان هدف إسرائيل هو استخدام الأصوليين الإسلاميين لتقويض أسس الحركة اليسارية الثورية للمقاومة الفلسطينية.

واشتبك المجمع بعنف مع اليسار الفلسطيني من أجل السيطرة على مؤسسات مثل الهلال الأحمر الفلسطيني (النسخة الإسلامية من الصليب الأحمر)، وذلك من خلال اقتحام مكاتبها. امتد الصراع على كافة المستويات. هاجم الإسلاميون المحلات التجارية التي تبيع المشروبات الكحولية ودور السينما، بينما كان الجيش الإسرائيلي في الغالب يقف على الهامش يراقب.

وقد استمرت العلاقة بين المجمع وبين المخابرات الإسرائيلية حتى بعد اعتقال الشيخ ياسين في عام 1984، وتضمنت مشاورات على أعلى المستويات. وبعد فترة طويلة من اندلاع الانتفاضة، روى هاشام، وهو خبير عسكري إسرائيلي في الشؤون العربية، أنه أخذ أحد مؤسسي حماس، محمود الزهار، للقاء وزير الدفاع الإسرائيلي إسحاق رابين، كجزء من المشاورات التي كانت تتم بانتظام.

كانت المذبحة التي وقعت في المسجد الأقصى في القدس في أكتوبر 1990، بالإضافة إلى اليأس الذي نشأ بعد ذلك الصراع الطويل الذي لم Jكن له أي آفاق، هي الظروف التي خلقت بيئة مواتية لنمو حماس.

اتفاقيات أوسلو 1993

دعم عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية العراق في حرب الخليج عام 1990. لقد استخدم صدام حسين القضية الفلسطينية ضد الإمبريالية الأمريكية، من خلال إدانته لازدواجية المعايير التي تطبقها على العراق وإسرائيل، وعرض الانسحاب من الكويت، إذا فعلت إسرائيل الشيء نفسه مع الأراضي المحتلة. أدى ذلك إلى حدوث قطيعة بين منظمة التحرير الفلسطينية وبين الولايات المتحدة، وكذلك مع جامعة الدول العربية، التي اصطفت خلف بوش.

آنذاك اعتبر الإمبرياليون الأمريكيون أنهم قادرون على تحويل ضعف عرفات لصالحهم. فدعوا إلى عقد مؤتمر “لحل القضية الفلسطينية” في مدريد في صيف عام 1991، والذي انضمت إليه منظمة التحرير الفلسطينية، بينما وصفته حماس بأنه “خيانة لفلسطين”. أدت المفاوضات الثنائية الإسرائيلية الفلسطينية في النهاية إلى توقيع اتفاقيات أوسلو، التي تمت الموافقة عليها رسميا وعلانية في البيت الأبيض في 13 شتنبر 1993، بالمصافحة الشهيرة بين ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين.

كانت الاتفاقيات من الجانب الإسرائيلي بمثابة اعتراف باستحالة الاستمرار في فرض الاحتلال المباشر على المناطق المحتلة، وهو ما كشفت عنه الانتفاضة.

لقد قضى رابين معظم حياته في محاربة الفلسطينيين. ففي عام 1948 شارك في الهجمات على اللد والرملة، بين تل أبيب والقدس، وهي العملية التي قتل فيها عدة مئات من الفلسطينيين. وفي عام 1967، كان رابين رئيسا لأركان الجيش الإسرائيلي خلال حرب الأيام الستة، وبعد ذلك حصل على صفة البطل الإسرائيلي. في أواخر الثمانينيات، عندما كان وزيرا للدفاع في عهد شامير، قام بقيادة حملة القمع الإسرائيلية على الانتفاضة، بما في ذلك إصدار أوامر للجنود الإسرائيليين بكسر أذرع الشباب الفلسطينيين الذين يقبض عليهم وهم يرشقون الحجارة، وهو ما نفاه لاحقا.

كانت الانتفاضة على وجه التحديد هي التي أقنعته بأن الوضع الراهن أصبح غير قابل للاستمرار. ونقل مقال في صحيفة نيويوركر (19 أكتوبر 2015) عن رابين قوله لمجموعة من زملائه في حزب العمل عام 1988: “لقد تعلمت بعض الأشياء خلال الشهرين والنصف الماضيين. ومن بين ما تعلمته أنه لا يمكنك أن تحكم بالقوة أكثر من مليون ونصف المليون فلسطيني”.

توضح كلمات رابين مدى عمق الضربات الثورية التي وجهتها الانتفاضة إلى أسس الاحتلال الإسرائيلي. وذلك ما أجبر القيادة الصهيونية على تغيير تكتيكاتها، وسمحت لهم إدارة رابين بالقيام بذلك، على الرغم من أن ذلك أدى إلى تزايد الاستياء من جانب اليمين المتطرف الصهيوني، وهو الأمر الذي كلف رابين حياته في عام 1995.

لقد تم اختيار “العدو اللدود”، أي قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، من قبل الطبقة السائدة الإسرائيلية في تسوية صعبة، كانت في الأساس فخا. وافقت منظمة التحرير الفلسطينية على الاعتراف بوجود إسرائيل، وتخلت عن المطالبة بحق العودة للاجئي 1948 الفلسطينيين. وفي المقابل وافقت إسرائيل على إنشاء سلطة فلسطينية في جزء من الأراضي المحتلة في غزة والضفة الغربية، تكون مسؤولة عن أمن إسرائيل.

أي، بعبارة أخرى، تولت منظمة التحرير الفلسطينية مهمة مراقبة وقمع شعبها في مقابل الحصول على شبه دولة فلسطينية تعتمد على أهواء إسرائيل على كافة المستويات. وقد تم التوصل إلى تلك الصفقة تحت رعاية الأنظمة العربية و”أصدقاء” فلسطين والإمبريالية الأمريكية.

شكلت اتفاقيات أوسلو نقطة تحول في الوضع برمته، حيث أقرت زوال المقاومة الفلسطينية. وبقيت حماس باعتبارها القوة الفلسطينية الرئيسية الوحيدة التي تعارض تلك الاتفاقيات.

وهكذا نضجت الثمار السامة لما يسمى بعملية السلام التي تقودها الإمبريالية الأمريكية، والتي ستشكل إطارا للصراع الإسرائيلي الفلسطيني حتى يومنا هذا. وبعد كل هذه السيرورة من النضالات البطولية للجماهير، وخيانة القيادة، لم يتم حل أي شيء. والحقيقة، بالنسبة للكثيرين، هي أنه لم تنته النكبة أبدا.