بيان التيار الماركسي الأممي: فليسقط النفاق! من أجل الدفاع عن غزة!

نعلن، نحن التيار الماركسي الأممي، من خلال البيان التالي، تضامننا مع الشعب الفلسطيني. ونرد على النفاق المثير للاشمئزاز للإمبريالية الغربية وأتباعها، الذين يتجمعون خلف الدولة الإسرائيلية الرجعية وهي تشن انتقاما دمويا على غزة، في أعقاب هجوم حماس المفاجئ يوم 07 أكتوبر. كما أننا نوضح لماذا لا يمكن تحقيق الحرية لفلسطين إلا من خلال الوسائل الثورية والإطاحة بالرأسمالية في المنطقة بأكملها.

[Source]

قد أحدث الهجوم الخاطف، الذي شنته حماس يوم السبت 07 أكتوبر، صدمة قوية في جميع أنحاء العالم. وقد قوبل على الفور بجوقة صاخبة من الإدانة من جانب الحكومات الغربية.

وعلى الفور قامت وسائل الإعلام بوصف الهجوم بأكثر العبارات ترويعا. لقد تم إعداد الرأي العام الغربي بشكل كامل، من طرف ما يوصف بشكل هزلي بأنه “صحافتنا الحرة”، لكي ينحاز إلى أحد طرفي الصراع، الذي يتم تصويره، كما هي العادة، على أنه قوى الخير في مواجهة قوى الشر.

في كوميديا الأخطاء المروعة هذه، يتم عكس الأدوار بسهولة، فيصبح الضحايا هم المعتدون، والمعتدون يصبحون الضحايا. ويدعم هذه الكذبة طوفان مستمر من الإدانات الأخلاقية للعنف والقتل وجميع صفات الإرهاب الفظيعة الأخرى.

ففي واشنطن، وفقا لصحيفة نيويورك تايمز، “ارتجف الرئيس بايدن من الغضب” عندما وصف الأعمال بأنها “شر خالص”، وتعهد بشكل لا لبس فيه بالوقوف إلى جانب إسرائيل ضد الإرهاب.

ولم يضيع رئيس أغنى وأقوى دولة في العالم أي وقت لكي يعلن عن أن الولايات المتحدة ستسرع في تسليم معدات وموارد وذخائر إضافية إلى إسرائيل، فضلا عن إرسال حاملة طائراتها الأحدث والأكثر تقدما، إلى جانب مجموعة كاملة من الصواريخ إلى شرق البحر الأبيض المتوسط.

المنافقون الإمبرياليون، أو نسبية الأخلاق

قتل الرجال والنساء أمر يثير بشكل طبيعي مشاعر الاشمئزاز لدى معظم الناس. ويتم تذكيرنا باستمرار بوصية الكتاب المقدس التي تقول: “لا تقتل”.

تبدو هذه الوصية، للوهلة الأولى، وكأنها تحمل طابعا مطلقا. لكن عند الفحص الدقيق، يصبح من الواضح أن نفور الطبقة السائدة ووسائل الإعلام من العنف والقتل ليس مطلقا أبدا، بل له مضمون نسبي تماما.

عندما يعبر الرجال والنساء العاديون عن رعبهم وسخطهم إزاء الفظائع التي قرأوا عنها في الصحافة، فإن هذا رد فعل إنساني طبيعي يمكننا أن نفهمه ونتعاطف معه.

لكن عندما تخرج نفس الكلمات من فم رئيس أمريكي، تلطخت يداه بدماء عدد لا يحصى من الأبرياء، فلا يسعنا إلا أن نهز أكتافنا وندير ظهرنا باشمئزاز.

إن هؤلاء الإمبرياليين الأوغاد، الذين يتظاهرون بالصدمة لمشهد العنف، قد شنوا مرارا وتكرارا حروبا عدوانية شرسة. لم يترددوا في شن حروب دموية ضد العراق وأفغانستان، حروب استمرت عقدين من الزمن، وقُتل فيها مئات الآلاف من المدنيين. لقد قصفوا ليبيا وسوريا والسودان وصربيا، دون أي اعتبار للمدنيين الأبرياء.

وقد كانت أفظع حالة على الإطلاق، في الآونة الأخيرة، هي الحرب الوحشية ضد الشعب اليمني، الذي هو أحد أفقر شعوب العالم، والتي شنتها المملكة السعودية، بدعم وتواطؤ كاملين، ومشاركة نشطة، من جانب الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وقوى إمبريالية أخرى.

إذا كان من الممكن وصف أي حرب بأنها إبادة جماعية، فمن المؤكد أنها كانت حرب اليمن. فوفقا للأمم المتحدة، قُتل أكثر من 150 ألف شخص في اليمن، فضلا عن تقديرات بأكثر من 227 ألف قتيل نتيجة للمجاعة الرهيبة التي خلقها السعوديون وحلفاؤهم عمدا، والذين كانوا مسؤولين أيضا عن تدمير المستشفيات ومرافق الخدمات الصحية.

تخفي هذه الأرقام بلا شك العدد الحقيقي للضحايا اليمنيين الذين سقطوا على يد السعوديين وداعميهم الإمبرياليين.

لكن أين كانت صرخات الإدانة ضد هذه الهمجية؟ أين كانت الاحتجاجات من جانب واشنطن ولندن؟ أين كانت العناوين العملاقة التي تصرخ ضد “الإرهاب”؟ لقد التزموا الصمت، لأن الحكومات الغربية كانت منخرطة بنشاط في حرب الإبادة هذه ضد شعب فقير مسحوق.

ليس لديهم أي حق في الشكوى من العنف، أو اتهام أي كان بـ”الإرهاب”. وعندما يتعلق الأمر بالحرب، فإنه من غير المجدي اللجوء إلى الاعتبارات الأخلاقية أو الإنسانية. فغاية الحروب قتل الناس. ولم يشهد التاريخ أي حرب إنسانية.

ليست تلك سوى عبارة منافقة، وورقة تين ملائمة، يستخدمها اليوم المعتدون لتبرير عدوانهم أمام الرأي العام.

غزة وأوكرانيا، أو نسبية “الحق في الدفاع عن النفس”

نرى مرة أخرى في ما يسمى بـ”حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، المعايير المزدوجة للإمبريالية الغربية. فعندما يتعلق الأمر بأوكرانيا، يقومون بتسليحها بشكل كثيف لمحاربة روسيا نيابة عنهم، وذلك بحجة أن للشعب الواقع تحت الاحتلال الحق في المقاومة.

لكن عندما يتعلق الأمر بالفلسطينيين، يختفي فجأة هذا الحق تماما. وبدلا من الدفاع عن المضطهَدين، يقوم الإمبرياليون بتسليح وتمويل المضطهِدين. من الواضح أن حق تقرير المصير لا ينطبق على الجميع!

وسيرا على خطى المنطق الملتوي للإمبريالية، قام الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، بتشبيه العملية التي قمت بها حماس بالغزو الروسي لبلاده، وأضاف صوته الأجش إلى الجوقة التي تدافع عن “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”! هل نحتاج إلى دليل آخر على الطبيعة الرجعية لهذا الرجل؟

وكما كان متوقعا، فقد اتهم زيلينسكي روسيا برغبتها في حرب في الشرق الأوسط لتقويض الدعم الدولي لأوكرانيا، مما يعكس القلق من أن تؤدي الحرب بين إسرائيل وحماس إلى صرف الانتباه عن حرب أوكرانيا.

وقال: “روسيا مهتمة بإشعال حرب في الشرق الأوسط، بحيث يمكن لمصدر جديد للألم والمعاناة أن يقوض الوحدة العالمية ويزيد الخلاف والتناقضات، وبالتالي يساعد روسيا على تدمير الحرية في أوروبا”.

زيلينسكي رجل يائس، وسيلجأ إلى أي شيء يعتقد أنه سيؤمن له تدفق الأسلحة والأموال، في حين تعاني أوكرانيا من هزيمة ساحقة في ساحة المعركة، وهناك علامات واضحة على تراجع الدعم بين الحلفاء، بما في ذلك الولايات المتحدة وسلوفاكيا وبولندا.

الانتقام

بمجرد أن يقبل المرء النظرية النسبية مطبقة على الأخلاق، يصبح من السهل عليه تبرير القتل -طالما أن تنفيذه يتم من جانبنا. ونحن نرى هذه النسبية الأخلاقية قيد التنفيذ الآن.

كان رد إسرائيل على هجوم حماس يوم السبت سريعا ووحشيا. أعلن بنيامين نتنياهو أن إسرائيل في حالة حرب. ووعد بتحويل غزة إلى “جزيرة مهجورة”.

تقصف الطائرات المقاتلة القطاع المحتل، وتسوي المباني الشاهقة بالأرض في المناطق السكنية، وتقصف بشكل عشوائي المدارس والمستشفيات والمساجد.

تعرضت مدرسة تديرها وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، والتي لم يكن داخلها أي “مسلحين”، لضربة مباشرة. وتم استهداف العديد من المجمعات السكنية دون سابق إنذار.

وواصلت إسرائيل استهداف غزة بغاراتها الجوية، مما أدى إلى تحويل بعض المباني إلى أنقاض. قال مسؤولون في غزة إن المستشفيات والمدارس قصفت، وإن 900 فلسطيني قتلوا بالفعل، من بينهم 260 طفلا.

ليست لكل هذا أية علاقة بالدفاع عن النفس، بل له علاقة بالتعطش للانتقام. وهذه ليست المرة الأولى التي تسعى فيها الدولة الإسرائيلية إلى معاقبة سكان غزة على تصرفات قادتهم من خلال استهداف المدنيين بشكل متعمد.

أمر وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، بفرض “حصار كامل” على قطاع غزة، وقال: “لقد أمرت بفرض حصار كامل على قطاع غزة. لن يكون هناك كهرباء ولا طعام ولا وقود، كل شيء مغلق”.

من المفترض أن يكون حرمان الرجال والنساء والأطفال من الغذاء والماء والكهرباء، جريمة بموجب “القانون الدولي”. وحتى الأمم المتحدة البئيسة وجدت أنه من الضروري تذكير الإسرائيليين بهذه التفاصيل الصغيرة، على الرغم من أن نتيجة هذا التذكير المهذب كانت صفرا كما كان متوقعا.

“حيوانات بشرية”

كيف يبررون كل هذا؟ يبررونه بكل بساطة. فقد عبر وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، عن الأمر بوضوح عندما قال: “إننا نقاتل حيوانات بشرية ونتصرف على هذا الأساس”.

هذه اللغة معروفة جدا لنا. فمن الممارسات الشائعة عند الإمبرياليين تبرير المذابح من خلال تجريد العدو من إنسانيته. فإذا قبلنا أن أعداءنا ليسوا بشرا مثلنا، بل مجرد حيوانات، فإننا نشعر بحقنا في معاملتهم بأي طريقة نشاء.

دعونا نتذكر أنه لعقود من الزمن، كان يُنظر إلى اليهود، ليس باعتبارهم بشرا، بل ككائنات دون البشر. وهذا يعني أنه كان في الإمكان تعريضهم للضرب والتعذيب والتجويع والقتل… من يهتم؟ فهم، في نهاية المطاف، ليسوا “سوى حيوانات”، أو “حيوانات بشرية” فالاختلاف في العبارة فقط.

لكن سكان قطاع غزة ليسوا حيوانات. إنهم بشر، كما أن سكان إسرائيل بشر. ومن حق جميع البشر أن يعاملوا بنفس الطريقة.

جوقة المنافقين

وكما لو أن الزعماء السياسيين في جميع أنحاء العالم كانوا في انسجام جيد التخطيط، فقد سارعوا إلى إعلان دعمهم غير المشروط لـ”حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”. وصار اليمين و”اليسار”، الجمهوريون والديمقراطيون، كلهم يغنون بصوت عال من نفس كتاب الترانيم القديم.

فنفس وسائل الإعلام التي ظلت صامتة بشأن جرائم الإمبريالية، كانت أيضا مقصرة جدا في نقل أخبار الإرهاب الإجرامي الذي تمارسه الدولة الإسرائيلية على الفلسطينيين منذ عقود عديدة. لقد كان الفلسطينيون ضحايا للاستفزازات العنيفة المستمرة من قبل المستوطنين اليهود اليمينيين المتطرفين.

من الواضح أن المقصود من هذا هو توفير الدعم المادي لحق إسرائيل في “الدفاع عن نفسها” عبر سحق مساحة صغيرة من الأرض مملوءة بمليونين ونصف المليون من الفقراء. توصف غزة بأنها أكبر سجن مفتوح في العالم.

كل المعسكر الإمبريالي يقف خلف إسرائيل وهي تتحرك لذبح الفلسطينيين في غزة.

وفي حال ما إذا لم تقتل القنابل وقذائف المدفعية والصواريخ عددا كبيرا بما فيه الكفاية من الفلسطينيين، فإن الاتحاد الأوروبي قد خطط للقضاء على عدد إضافي منهم عن طريق التجويع.

لقد أعلن الاتحاد الأوروبي أنه سيعلق المساعدات المالية للفلسطينيين، والتي يعتمدون عليها بشكل كبير من أجل بقائهم. كان القرار فضيحة مروعة إلى درجة أنه تم التراجع عنه لاحقًا.

نرى هنا تلخيصا مكثفا في بضعة أسطر لجوهر ما يطلق عليه “الحضارة الغربية”.

ولم يكن من المستغرب قيام زعماء الجناح اليميني للأحزاب “العمالية”، مثل السير كير ستارمر في بريطانيا، بضم أصواتهم الحادة على الفور إلى هذه الجوقة المنافقة. لقد باع هؤلاء السيدات والسادة أرواحهم للشيطان منذ زمن بعيد. إنهم ليسوا سوى عملاء للإمبريالية.

لكن الإصلاحيين اليمينيين ليسوا الجناة الوحيدين. إذ، ويا للعار، انضم العديد من الإصلاحيين “اليساريين” بدورهم إلى جوقة الإدانة (ساندرز، وإلهان عمر، وأليكساندريا أوكاسيو كورتيز، والحزب الشيوعي الفرنسي، من بين آخرين).

ليست هذه هي المرة الأولى التي يظهر فيها هؤلاء الذين يسمون بـ”اليساريين” جبنهم الكامل وافتقارهم إلى المبادئ. لقد انحنوا على الفور تحت ضغط وسائل الإعلام الرأسمالية والرأي العام البرجوازي، وانتهى بهم الأمر إلى تبني موقف الطبقة السائدة.

إن التيار الماركسي الأممي لن ينضم إلى الجوقة المنافقة للإمبرياليين وأتباعهم.

ما هو موقفنا؟

في كل حرب، تستخدم الأطراف المتحاربة دائما قصص الفظائع -الحقيقية أو المفتعلة- لتبرير أعمال العنف والقتل التي ترتكبها. إن موقف الشيوعيين من الحرب لا يمكن أبدا أن يرتكز على الدعاية العاطفية التي يتم استخدامها بشكل كلبي لتوفير التبرير لطرف أو لآخر. كما لا يمكن تبرير الحرب على أساس من الذي أطلق الرصاصة الأولى. إن موقفنا من الحرب يجب أن يرتكز على أسس أخرى مختلفة تماما.

موقفنا بسيط للغاية:

في كل صراع، سنقف دائما إلى جانب الفقراء والمضطهَدين، وليس إلى جانب الأغنياء والأقوياء المضطهِدين.

وفي هذه الحالة الملوسة لا بد من طرح السؤال التالي: من هم المضطهِدون ومن هم المضطهَدون؟ هل الفلسطينيون هم من يضطهدون الإسرائيليين؟ لا يمكن لأحد في كامل قواه العقلية أن يعتقد ذلك.

ليس الفلسطينيون هم من يحتلون أرضا ليست ملكهم ويسيطرون عليها بالقوة. ليسوا هم من يطردون المستوطنين الإسرائيليين من الأراضي التي امتلكوها منذ أجيال، بل العكس هو الصحيح.

ليسوا هم من يحرمون المواطنين الإسرائيليين من أبسط حقوقهم، أو يعرضونهم لحصار وحشي ويحولونهم إلى منبوذين في أرضهم.

هل من الضروري أن نسرد القائمة الطويلة من الجرائم التي ارتكبتها الدولة الإسرائيلية الرجعية ضد الفلسطينيين؟

لا يتسع المجال لذكر تلك الجرائم التي تستمر يوما بعد يوم، وشهرا بعد شهر، وسنة بعد سنة، لتحول حياة الفلسطينيين إلى جحيم لا يطاق.

لقد تم تحويل الفلسطينيين إلى وضع لا يختلف كثيرا عن العبودية. وعندما يتم حرمان العبيد من كل حق آخر، لا يصير في إمكانهم اللجوء إلا إلى الحق الوحيد المتبقي لهم: حق الثورة.

عادةً كانت ثورات العبيد، على مر التاريخ، مصحوبة بأعمال عنف شديد، والتي كانت مجرد انعكاس للقمع الوحشي الذي عانوا منه على أيدي مالكي العبيد.

هذه حقيقة مؤسفة. لكنها لا تعفينا من واجب الدفاع عن ثورة العبيد ضد مالكي العبيد. تناول ماركس هذه المسألة في مقال كتبه عام 1857، يرد فيه على مقالات الصحافة البريطانية التي تؤكد على الفظائع التي ارتكبت خلال الانتفاضة الهندية ضد البريطانيين، حيث قال:

إن الفظائع التي ارتكبها السباهيا المتمردون في الهند مروعة حقًا، وبشعة، وتفوق الوصف، ولا يمكن للمرء أن يتوقعها إلا في حروب التمرد، والحروب القومية، والعرقية، وقبل كل شيء، الحروب الدينية؛ أي بكلمة واحدة، مثل تلك الحروب التي اعتادت إنجلترا المحترمة أن تصفق لها عندما ارتكبها الفينديون ضد “الزرق”، ونفذها المغاوير الإسبان ضد الفرنسيين الكفار، والصرب ضد جيرانهم الألمان والمجريين، ونفذها الكروات ضد المتمردين في فيينا، والحرس المتنقل لكافينياك أو ديسامبريي بونابرت ضد أبناء وبنات فرنسا البروليتارية.

لكن مهما كان سلوك السباهيا مروعا، فإنه ليس سوى انعكاس، بشكل مركز، لسلوك إنجلترا في الهند، ليس فقط خلال عصر تأسيس إمبراطوريتها الشرقية، بل حتى خلال السنوات العشر الأخيرة من فترة حكمها الطويلة. ولوصف هذا الحكم، يكفي أن نقول إن التعذيب شكل كل الهيكل العضوي لسياستها المالية. هناك شيء في التاريخ البشري يسمى القصاص: ومن قواعد القصاص التاريخي أن أداة القصاص لا يتم صنعها من قبل المعتدى عليه، بل من قبل الجاني نفسه.

هل ندعم حماس؟

سيقول أعداؤنا: إذن أنتم تدعمون حماس. سنرد على هذا الاتهام قائلين: إننا لم ندعم حماس قط. نحن لا نشاركها أيديولوجيتها، ولا نتغاضى عن الأساليب التي تستخدمها.

نحن شيوعيون ولدينا أفكارنا وبرامجنا وأساليبنا الخاصة، المبنية على أساس الصراع الطبقي بين الأغنياء والفقراء، بين المضطهِدين والمضطهَدين. وهذا هو الذي يحدد موقفنا في كل حالة.

لكن خلافاتنا مع حماس، رغم أنها خلافات جوهرية، لا تصل إلى جوهرية الاختلافات التي تفصلنا عن الإمبريالية الأمريكية -القوة الأكثر رجعية على وجه الأرض- وشركائها في الجريمة والطبقة السائدة الإسرائيلية.

وسوف يسألنا منتقدونا: هل توافقون على قتل هذا العدد الكبير من المدنيين الأبرياء؟ سنجيب بأننا لم ندافع قط عن مثل هذه الممارسات، كما أننا لا نتغاضى عنها.

مهمتنا الأولى، على حد تعبير سبينوزا، هي ألا نبكي ولا نضحك، بل أن نفهم. ليست للاعتبارات الأخلاقية أية فائدة على الإطلاق في تفسير أي شيء. ومن أجل فهم ما يحدث، لا بد من طرح السؤال بطريقة مختلفة: ما الذي أدى إلى هجوم حماس؟

هل يمكن فصله عن عقود من القمع والعنف والاحتلال لفلسطين من قبل دولة إسرائيل الرجعية؟

كلا بالطبع !

إسرائيل دولة قوية وثرية ظلت على مدى عقود تسلب الفلسطينيين وتضطهدهم بمزيج من القوة الغاشمة والقوة الاقتصادية.

يجب علينا أيضا أن نرى سلسلة الأحداث التي أدت مباشرة إلى الوضع الحالي. إنها لم تسقط من سماء زرقاء صافية، على عكس ما يُطلب منا أن نصدق.

الخيانة

وعد الإمبرياليون الفلسطينيين بتحقيق العدالة، إذا هم انتظروا لفترة أطول قليلا. لكنهم انتظروا وانتظروا وكانت النتيجة الوحيدة هي المزيد من تدمير وطنهم والمزيد من ضياع الحقوق.

وعندما ينفد صبر المضطهَدين فإنهم، عاجلا أم آجلا، سوف ينهضون ضد مضطهِديهم. في مثل تلك اللحظات، يصير من الحتمي ارتكاب التجاوزات والأعمال العنيفة. ومن الطبيعي أن نأسف لحدوث ذلك. لكن من المسؤول حقا؟

إذا ارتكب رجل أو امرأة جريمة قتل بدم بارد، فهذه بلا شك جريمة تستحق العقاب.

لكن إذا تعرضت امرأة لمعاملة وحشية لسنوات عديدة على يد زوجها، ثم انقلبت ذات يوم على معذبها وقتلته، فإن معظم الناس سيقولون إنه يجب أن تؤخذ الظروف التي أدت إلى تصرفها في الاعتبار.

دعونا نعود إلى القضية الحالية. خلال الأسابيع التي سبقت الانفجار، كان المتعصبون الدينيون اليهود يرتكبون استفزازات مستمرة. واقتحموا حرم المسجد الأقصى، الذي يعتبر أحد أقدس الأماكن بالنسبة للعالم الإسلامي. وكانوا يقومون بذلك تحت حماية الشرطة والجيش.

الاستفزاز

نتنياهو متحالف مع اليمين الصهيوني المتطرف، والذين بعضهم فاشيون بشكل علني. هدفهم المعلن هو تنظيم نكبة جديدة، أي اجتثاث الفلسطينيين فعليا من الأرض التي يعيشون فيها الآن، بدءا من القدس والضفة الغربية.

وهذه السياسة ليست جديدة، لكنها تصاعدت خلال الأشهر الأخيرة. فقد قام المستوطنون، الذين تم استيرادهم أساسا من الولايات المتحدة وتم تجنيدهم من بين الأصوليين الدينيين الأكثر تطرفا، ببناء مستوطنات في الضفة الغربية.

وترتبط تلك المستوطنات بشبكة من الطرق المحمية عسكريا، والتي تقسم الأراضي التابعة رسميا لسيطرة الأراضي الفلسطينية.

يشعر المستوطنون الرجعيون بالجرأة وأنهم محميون من قبل الحكومة الإسرائيلية القومية المتطرفة.

وكانت عصابات مسلحة من المستوطنين المتعصبين دينيا تقوم بتنفيذ مذابح ضد الفلسطينيين، بدعم علني أو سري من الجيش والشرطة الإسرائيليين. من المفترض أن تكون عمليات الاستيلاء على الأراضي هذه غير قانونية بموجب “القانون الدولي”. لكن كل القرارات الورعة التي أصدرتها الأمم المتحدة، في طقوس لا معنى لها، لم تفعل شيئا لوقف تلك الأعمال الإجرامية.

وفي ظل هذه الظروف، لا يمكن لأحد أن يتفاجأ حقاً بأن الفلسطينيين يقاومون. من حق الشعب المضطهَد أن يقاوم.

سوف يزعم المنافقون أن كلا الجانبين يتحملان المسؤولية، لأن كلاهما استخدما العنف. هذا الادعاء صحيح من الناحية الشكلية. لكن مضمونه خاطئ من حيث الجوهر. إذ لا يمكن مساواة عنف أحدهما بعنف الآخر. ليس هناك أي تكافؤ على الإطلاق بين الجانبين.

فمن ناحية، لدينا بلد رأسمالي حديث ومتقدم، يمتلك أسلحة نووية، وطائرات مقاتلة ومسلح بصواريخ قوية، وتكنولوجيا ومعدات مراقبة متقدمة، والذي يعتمد على الدعم المادي والمالي الكامل من أقوى دولة إمبريالية في العالم.

ومن ناحية أخرى، لدينا الفلسطينيين المضطهَدين، الذين يقاتلون بأي سلاح يمكن أن يقع في أيديهم.

أن يتفاجأ المرء بالأحداث الأخيرة هو في الواقع أمر في غاية الحماقة. فبالنظر لتلك الظروف، كان وقوع انفجار ما أمرا لا مفر منه تماما، على الرغم من أنه لم يكن من الممكن توقع وقته ومضمونه… حتى من قبل أجهزة المخابرات الإسرائيلية.

إسرائيل تعرضت للإذلال

من الضروري التعامل مع الحرب وفق شروطها الخاصة، وعدم إقحام اعتبارات دخيلة غريبة عنها تماما. إن ما أثار غضب الطبقة السائدة الإسرائيلية ليس عدد الأشخاص الذين فقدوا حياتهم. إن اهتماماتها ذات طبيعة عملية بحتة.

لقد كان الهجوم ناجحا من وجهة النظر العسكرية البحتة. لقد فاجأت الحرب الخاطفة غير المتوقعة أجهزة المخابرات الإسرائيلية التي تتبجح كثيرا بفعاليتها. قامت مجموعات كوماندو مسلحة جيدا باختراق الدفاعات الإسرائيلية، واخترقت ما كان من المفترض أنه خط منيع وألحقت خسائر فادحة بالقوات الإسرائيلية.

وعندما انتشر الخبر، تسبب في موجة من الذعر والخوف داخل إسرائيل التي كانت السلطات فيها تنوم السكان بفكرة أنهم محميون بخط دفاع منيع. تحطمت ثقة الناس في أسطورة الحصانة، بين عشية وضحاها. وسيكون لهذه الحقيقة عواقب لا تحصى في المستقبل.

وفي المقابل تم الاحتفاء بأخبار الهجوم في شوارع العديد من العواصم العربية. حيث ارتفعت معنويات الجماهير بحقيقة أن الدولة الإسرائيلية الجبارة قد تعرضت أخيرا لهزيمة مذلة. وبالمقارنة مع هذه الحقيقة، صارت جميع الاعتبارات الأخرى تبدو ذات أهمية ثانوية.

كان نتنياهو يشعر بثقة كبيرة لأنه يحظى بدعم قوي من الإمبريالية الأمريكية، التي تزود إسرائيل بكميات لا حصر لها من الدولارات والأسلحة الفتاكة.

نقل الأمريكيون سفارتهم إلى القدس، وهو ما يشكل صفعة على وجه كل الفلسطينيين. كان الرئيس ترامب هو من اتخذ ذلك القرار الاستفزازي. لكن الرئيس بايدن لم يتراجع عنه، وهو حريص على تأمين الأصوات اليهودية في انتخابات العام المقبل، فضلا عن الحفاظ على أحد حلفائه القلائل المتبقين في المنطقة.

سلمية أم عنيفة؟

كثيرا ما يواجهنا أعداؤنا بالسؤال التالي: هل أنتم تؤيدون العنف؟ يمكنهم أن يسألوننا أيضا عما إذا كنا نؤيد الطاعون الدبلي، لأن هذه الأسئلة بدون أي معنى.

هناك أسئلة تجيب على نفسها بنفسها، وهذا السؤال ينتمي لذلك النوع بالتحديد. لكن الاكتفاء بالإجابة بالنفي لا فائدة منه على الإطلاق. يجب على المرء أن يشرح الظروف الملموسة التي يُستخدم فيها العنف: لأي غرض؟ ولمصلحة من؟ فبدون هذه المعلومات، من المستحيل حقا تقديم إجابة دقيقة. وهذا هو الحال في كل صراع، وهذا هو الحال الآن أيضا.

يقتصر الكثير من “اليساريين” (كالعادة) على إدانة العنف بشكل عام، والدعوة إلى “تسوية سلمية” عبر “المفاوضات” وتدخل “المؤسسات الدولية”. لكن هذا كذب وخداع.

على مدار 75 عاما، كانت هناك مفاوضات ومحادثات لا نهاية لها، ولم يؤد ذلك إلى تقدم قضية تحرر فلسطين ولو قيد أنملة. ولعقود من الزمن، أصدرت ما يسمى بالأمم المتحدة قرارات تدين الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية عام 1967، لكن لم يتغير أي شيء. بل في الواقع، أصبح الوضع أسوء بكثير.

إن التصعيد الحالي للصراع هو في الواقع نتيجة للفشل الكامل لاتفاقيات أوسلو. إن فكرة إنشاء دويلة فلسطينية إلى جانب إسرائيل على أساس رأسمالي كان محكوما عليها بالفشل، كما سبق لنا أن حذرنا منذ ذلك الوقت.

كان هدف إسرائيل هو تمرير مهمة ضبط وقمع الفلسطينيين إلى السلطة الوطنية الفلسطينية، بقيادة القوميين البرجوازيين من حركة فتح، الذين كانوا محبطين تماما وغير قادرين عضويا على دفع نضال التحرر الوطني الفلسطيني إلى الأمام.

لقد كشفت السنوات الثلاثين الماضية عن الفشل الذريع لحل الدولتين الذي فرضته الإمبريالية الأمريكية والرأسمالية الإسرائيلية على الفلسطينيين.

وليس من المستغرب أن يقول 61% من الفلسطينيين، في استطلاع للرأي أجري مؤخرا، إنهم أصبحوا أسوء حالا مما كانوا عليه قبل أوسلو، وقال 71% منهم إن التوقيع على الاتفاقية كان خطأً.

إلا أنه وعلى الرغم من ذلك، فإن دعاة السلام اليساريين اليائسين يقولون إنه على الفلسطينيين الاقتصار على وسائل النضال السلمية فقط. لكنهم عندما حاولوا القيام بذلك، ماذا كانت النتيجة؟

مسيرات العودة عام 2018 نظمها مدنيون عزل. لكن الجيش الإسرائيلي استخدم الذخيرة الحية، مما أدى إلى مقتل المئات وإصابة أكثر من عشرة آلاف، بينهم أطفال ونساء وصحفيون ومسعفون.

كان ذلك على وجه التحديد هو الذي أقنع الفلسطينيين بأن السبيل الوحيد للمضي قدما هو مواجهة العنف بالعنف. قد يتأسف المرء على هذه الحقيقة، لكن هذا هو الاستنتاج الوحيد الممكن الذي من المتوقع أن يتوصل إليه الفلسطينيون. تقع مسؤولية ذلك بنسبة 100%على عاتق الدولة الإسرائيلية وداعميها الإمبرياليين.

وبحسب الاستطلاع نفسه فإن 71% يعتقدون أن حل الدولتين لم يعد حلا عمليا بسبب التوسع الاستيطاني، و52% يؤيدون تفكيك السلطة الفلسطينية و53% يعتقدون أن الكفاح المسلح هو السبيل الوحيد لكسر الجمود.

الخطط الإمبريالية في حالة خراب

قبل أحداث 07 أكتوبر، كان ما يسمى بعملية التطبيع جارية: وهو ما يعني في الأساس أن تقيم إسرائيل علاقات دبلوماسية واقتصادية طبيعية مع الدول العربية (وخاصة المملكة السعودية)، ونتيجة لذلك تم الإعلان عن انتهاء المشكلة الفلسطينية.

اتضح ذلك في مداخلة نتنياهو في الجمعية العامة للأمم المتحدة، في شتنبر الماضي، حيث أظهر خريطة للمنطقة تبين إسرائيل والبلدان التي كانت تطبع العلاقات معها… لكن إسرائيل في تلك الخريطة شملت هضبة الجولان وغزة والضفة الغربية، واقصت فلسطين من الصورة تماما!

هذه الكلبية الوقحة لم تفضح فقط موقف نتنياهو وعصابته الرجعية، بل كذلك أيضا من يسمون بالديمقراطيين الإمبرياليين، الذين يتعاملون مع القوميات الصغيرة كما لو كانت أوراق لعب في خططهم.

كان من المقرر أن يتم ذلك التقسيم الوحشي من وراء ظهر الفلسطينيين. فمجرد وجودهم ذاته يعتبر بمثابة إزعاج مريع. أما احتجاجاتهم المستمرة فمن الممكن تجاهلها بكل أمان، في حين أن المهمة غير السارة، لكن الضرورية، المتمثلة في قمعهم، فيمكن أن يعهد بها إلى جنود القوات المسلحة الإسرائيلية.

كانت تلك هي النظرية. لكن الحياة لديها عادة مؤسفة تتمثل في معاكسة حتى أرقى النظريات. وكانت هذه النظرية بالتحديد تحتوي على فجوة كبيرة في مركزها: فقد افترضت أن الفلسطينيين كانوا خائفين للغاية، ومسحوقين تماما، لدرجة أنهم لن يكونوا قادرين على خوض معركة حقيقية. لكن هذا الافتراض تحطم إلى قطع صغيرة يوم السبت 07 أكتوبر.

وجهت عدد من المصادر أصابع الاتهام إلى إيران. ورغم نفي طهران، فإن ذلك قد يكون صحيحا. إذ أن التنفيذ الماهر للهجوم والطريقة التي اخترق بها بسرعة دفاعات إسرائيل القوية، أظهر درجة من الاحترافية لا يمكن أن تكون من عمل حماس بمفردها.

إضافة إلى أنه لإيران مصلحة خاصة في نجاح العملية. كانت النتيجة المباشرة هي تحطيم خطة نتنياهو لإقامة علاقات وثيقة مع المملكة السعودية. كانت العصابة الرجعية في الرياض مستعدة تماما لبيع الفلسطينيين، وعقد صفقة مع إسرائيل.

لكن تلك الخطط -التي شجعتها الولايات المتحدة بطبيعة الحال- قد تحطمت. لقد رفض محمد بن سلمان بوضوح الانضمام إلى جوقة الدعم لـ”حق إسرائيل في الدفاع عن النفس”، فهو سيعرض النظام الملكي نفسه للخطر إذا تجرأ على معاكسة مشاعر الشعب السعودي، الذي سيكون من أشد المؤيدين للفلسطينيين.

نشرت صحيفة الغارديان مقالا بعنوان: “هجوم حماس غيّر فجأة صورة دبلوماسية الشرق الأوسط”. هذه الكلمات تطرح الأمر بشكل لطيف جدا. كتب باتريك وينتور، المحرر الدبلوماسي لصحيفة الغارديان قائلا:

تريد إيران أن تجعل من المستحيل على المملكة العربية السعودية التوصل إلى اتفاق مع إسرائيل، في حين أن الآخرين في المنطقة لا يستطيعون تحمل الفوضى في غزة.

وهذا صحيح. فالزعماء العرب لا يمكنهم تحمل تلك التكاليف بسبب آثارها المزعجة للغاية على الجماهير في بلدانهم. إن التهديد بالثورة في الشوارع حاضر دائما في أذهان الطغم العربية الحاكمة، التي لم تنس الدرس المستفاد من الانتفاضات الجماهيرية المعروفة باسم الربيع العربي.

وهذا كابوس بالنسبة للحكام العرب ولواشنطن على حد سواء. لكن النسخة الجديدة من الثورة العربية تشكل الأمل الوحيد للتوصل إلى حل دائم للقضية الفلسطينية.

يجب على الشعب الفلسطيني المضطهَد ألا يثق في وعود الحكومات الأجنبية، الذين همهم الوحيد هو الإدلاء بتصريحات فارغة عن دعمهم للفلسطينيين، من أجل تصوير أنفسهم كمتضامنين مع المضطهَدين، والتي هي صورة زائفة حتى النخاع.

وغني عن القول إن وعود الإمبرياليين لا قيمة لها على الإطلاق، وكذلك القرارات الوهمية التي تتخذها بشكل روتيني ما تسمى بالأمم المتحدة.

لا يمكن للشعب الفلسطيني أن يحرر نفسه إلا من خلال جهوده الذاتية. والحلفاء الوحيدون الموثوقون، والذين يمكنه الاعتماد عليهم، هم العمال والفلاحون في المنطقة وفي جميع أنحاء العالم الذين يتعرضون مثله للاضطهاد والاستغلال.

إسرائيل على طريق خطير

هناك عامل آخر لا يمكن تجاهله. فما دامت دولة إسرائيل قادرة على الاعتماد على دعم أغلبية السكان اليهود، فسيكون من الصعب للغاية الإطاحة بها. ولن يكون هذا الهدف قابلا للتطبيق إلا من خلال تقسيم دولة إسرائيل على أسس طبقية.

يبدو أن هذا المنظور غير مرجح في ظل الظروف الحالية. ويرجع ذلك جزئيا إلى أيديولوجية حماس وأساليبها، والتي تقنع العديد من المواطنين الإسرائيليين بأن حياتهم مهددة من قبل “الإرهابيين” الفلسطينيين.

ومن المؤسف أن الهجوم الأخير وقتل المدنيين أقنع العديد من الإسرائيليين بأن الحل الوحيد هو الالتفاف حول الحكومة. وقد شجعهم على ذلك السلوك الفاضح لما يسمى بالمعارضة، التي أسقطت على الفور جميع اعتراضاتها على السياسات الرجعية لحكومة نتنياهو وسارعت إلى عرض الانضمام إلى ما يسمى بحكومة الوحدة الوطنية. هذه سياسة كارثية.

يجب على شعب إسرائيل أن يطرح على نفسه السؤال التالي: كيف يعقل أنهم، بعد سنوات عديدة من الصراع، وكل تلك الحروب، والعديد من الانتصارات العسكرية، صاروا الآن يشعرون بعدم الأمان أكثر من أي وقت مضى منذ تأسيس دولة إسرائيل؟ وكيف أن جميع التدابير المتقنة التي زُعم أنها تهدف إلى ضمان سلامتهم، اتضح، في لحظة الحقيقة، أنه ليس لها أي قيمة.

صحيح أن إسرائيل، بقوتها العسكرية الهائلة وقوتها النارية المتفوقة، قادرة بسهولة على هزيمة حماس عسكريا. ومع ذلك، فإن الغزو البري لغزة، بشوارعها الضيقة، وذلك العدد الذي لا يحصى من الأنفاق، وسكانها المعادين والصامدين، لن يتم من دون خسائر فادحة في الأرواح على الجانبين. وبعد أن تتحول غزة إلى كومة من الركام، ماذا بعد؟ ليس لديكم ما يكفي من القوات لاحتلال وإخضاع شعب معادي، يبلغ تعداده 2.3 مليون نسمة، إلى أجل غير مسمى. عاجلا أم آجلا، ستحدث انفجارات جديدة وسفك للدماء.

والأمور لا تنتهي عند هذا الحد. إذ أن اضطهاد الفلسطينيين يعمل على تأجيج المشاعر في جميع أنحاء العالم العربي. ومحاولات إقامة علاقات مع السعودية تحولت الآن إلى رماد. تجد إسرائيل نفسها الآن أكثر عزلة من أي وقت مضى. إن التوقعات بالنسبة لإسرائيل، المحاطة بملايين الأعداء من كل جانب، قاتمة بالفعل. ويشكل حمام الدم الأخير تحذيرا خطيرا من أن الأمور ستصير أسوء في المستقبل، ما لم يتغير شيء جوهري في إسرائيل نفسها.

لقد سبق لماركس أن أشار، منذ زمن بعيد، إلى أنه لا يمكن لأية أمة أن تكون حرة طالما أنها تضطهد وتخضع أمة أخرى، وقال: “إنها مهمة خاصة للمجلس المركزي في لندن أن يجعل العمال الإنجليز يدركون أن التحرر الوطني لإيرلندا بالنسبة لهم ليس مسألة عدالة مجردة أو مشاعر إنسانية، بل هي الشرط الأول لتحررهم الاجتماعي هم أنفسهم”.

في الوقت الحاضر، يتم إسكات صوت العقل في إسرائيل بسبب هدير الثورة المضادة. لكن أولئك الذين يدعون إلى الاتحاد مع قوى نتنياهو الرجعية والمتعصبين الدينيين المتطرفين، يدفعون إسرائيل مباشرة نحو الهاوية.

ماذا الان؟

لقد أظهرت الجماهير الفلسطينية، مرارا وتكرارا، على مدى سنوات عديدة، درجة عالية من نكران الذات والشجاعة والاستعداد للكفاح. والمشكلة هي أنها تفتقد لقيادة في مستوى هذه المهمة.

وبعد عقود عديدة من الخيانات والوعود الكاذبة، نفد صبر الفلسطينيين الآن. بالنسبة للشباب الفلسطيني الكفاحي الذي يرغب في القتال ضد الدولة الإسرائيلية القوية، يبدو أن صواريخ حماس توفر نوعا من الجواب. وقد تلقى هذا الاعتقاد دفعة قوية نتيجة للأحداث الأخيرة.

لا يمكن أن يكون هناك شك في أن نجاح حماس في اختراق الدفاعات الإسرائيلية، التي قيل إنها منيعة، وتوجيه الضربات الموجعة ضد إسرائيل، قد اعتبر بمثابة انتصار في نظر الكثيرين في العالم العربي، الذين كانوا يتوقون لرؤية إسرائيل تتعرض للإذلال.

سيؤدي هذا، على المدى القصير، إلى زيادة كبيرة في شعبية حماس. لكن على المدى الأبعد سوف تصير محدودية نجاح حماس واضحة للغاية. فميزان القوى العسكري يميل بشكل ساحق لصالح إسرائيل.

لقد توصل الشباب المكافح إلى أن الطريق الوحيد للمضي قدما ليس من خلال المحادثات، بل من خلال النضال الثوري. يتضمن ذلك التحرك الجماهيري والإضرابات الجماهيرية، و… أجل: يجب، في آخر المطاف، أن يتضمن النضال ضد دولة إسرائيل الدفاع المسلح عن النفس والكفاح المسلح.

ومع ذلك فإنه من المهم ألا نفقد حس النسبية. إن النضال الثوري للجماهير الفلسطينية، طالما ظل معزولا، لن يكون كافيا لهزيمة قوة الدولة الإسرائيلية.

سيتطلب ذلك تظافر جهود حركة ثورية جماهيرية في جميع أنحاء الشرق الأوسط. لكن هناك عقبة كبيرة تقف في الطريق: فالأنظمة العربية البرجوازية الرجعية تدعم القضية الفلسطينية بالكلمات فقط، لكنها مستعدة عند كل منعطف لخيانة الفلسطينيين وعقد صفقة مع الإمبريالية.

لن يتسنى فتح الطريق أمام انتصار الثورة الاشتراكية في الشرق الأوسط -الذي هو الشرط المسبق لتحرير فلسطين- إلا من خلال الإطاحة بهذه الأنظمة الفاسدة.

وفي آخر المطاف فإن إنشاء جبهة موحدة بين الشعب الفلسطيني وبين الطبقة العاملة والفئات التقدمية داخل المجتمع الإسرائيلي، هو وحده الذي سيخلق إمكانية تقسيم الدولة الإسرائيلية على أسس طبقية، وفتح الطريق أمام تحقيق حل دائم وديمقراطي للقضية الفلسطينية.

سيتحقق هذا نتيجة للثورة العربية، التي لا يمكنها أن تنجح إلا إذا استمرت حتى النهاية. إن إسقاط الأنظمة الفاسدة ليس إلا نصف الحل. لا يمكن تحقيق التحرر الحقيقي للشعب إلا من خلال مصادرة ملكية الملاكين العقاريين وأصحاب الأبناك والرأسماليين.

الثورة الاشتراكية هي الحل الوحيد!

الشرق الأوسط، بإمكاناته الهائلة وموارده الطبيعية واحتياطياته الضخمة غير المستغلة من فائض قوة العمل والشباب المتعلم، بقي لفترة طويلة يعاني من البلقنة، والتي هي من إرث الاستعمار الذي قسم المنطقة إلى دول صغيرة يمكن السيطرة عليها واستغلالها بسهولة.

لقد شكل ذلك الإرث المسموم أرضا خصبة للحروب التي لا نهاية لها والكراهية القومية والدينية وغيرها من القوى المدمرة. وليست القضية الفلسطينية إلا التعبير الأكثر وضوحا ووحشية عن هذه الحقيقة.

ليست لدى العمال أية مصلحة في غزو الأراضي الأجنبية أو إبقاء الشعوب الأخرى في حالة قهر. فعندما ستكون السلطة في أيدي الطبقة العاملة، سيصبح من الممكن حل كافة المشاكل التي تواجه العالم العربي بشكل سلمي وديمقراطي وبالاتفاق.

في ظل فدرالية اشتراكية ديمقراطية، سيكون من الممكن إقامة علاقات أخوية بين الشعوب: العرب واليهود، والسنة والشيعة، والكورد والأرمن، والدروز والأقباط. وسيكون الطريق مفتوحا أخيرا أمام تسوية دائمة وديمقراطية للقضية الفلسطينية.

هناك ما يكفي من الأراضي لإنشاء دولة فلسطينية تتمتع بالحكم الذاتي وقابلة للحياة ومزدهرة، مع حكم ذاتي كامل لكل من العرب واليهود، على غرار الجمهوريات السوفياتية التي أنشأها البلاشفة بعد ثورة أكتوبر.

سيقول أصحاب العقول الصغيرة إن هذا مجرد حلم طوباوي. لكن نفس الأشخاص قد أكدوا دائما أن الاشتراكية مجرد حلم طوباوي. إن هؤلاء الذين يسمون أنفسهم “واقعيون” يتشبثون بعناد بالوضع الراهن، الذي يقولون إنه الواقع الوحيد الممكن، وذلك فقط لأنه موجود بالفعل.

الثورة مستحيلة وفقا لهذه “النظرية” المفلسة. لكن كل ما هو موجود محكوم بالفناء. ويخبرنا التاريخ كله أن الثورات ليست ممكنة فحسب، بل إنها حتمية. إن النظام الرأسمالي فاسد حتى النخاع. وأساساته تتداعى وتتهاوى قبل السقوط.

كل ما هو مطلوب هو أن يتم توجيه ضربة قوية له. وليس من المستبعد على الإطلاق أن تأتي تلك الضربة من انتفاضة جديدة في العالم العربي. هذا هو السبيل الوحيد للمضي قدما بالنسبة لشعوب الشرق الأوسط. إن الثورة الفلسطينية سوف تنتصر باعتبارها جزءا من الثورة الاشتراكية، أو أنها لن تنتصر على الإطلاق.